الأحد 12 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

القراءة رافعة رأسها

القراءة رافعة رأسها
21 مارس 2019 01:07

لمدة طويلة لم يول النقد عنايته إلا للمؤلف على حساب القارئ. بل إن من المفكرين من ظل يتشكك في إمكانية إقامة نظرية في القراءة. فحتى رولان بارت الذي يمكن أن يُعتبر من أهم من أوْلى هذه المسألة عنايته، كتب ذات مرة: «لست متأكداً ممّا إذا كان من الضروري إقامة نظرية في القراءة، لست أدري ما إذا لم تكن القراءة أصلاً سوى حقلٍ متعددٍ من الممارسات المتنوعة المشتتة ذات المفاعيل التي لا يمكن اختزالها، وما إذا كانت قراءةُ القراءةِ، ما إذا كانت ميتا-القراءة، سوى شتات من الأفكار والتخوفات والرغبات والمتع والضغوط التي ربما يكون من الأنسب الحديث عنها جرعة جرعة».

كان ينبغي إعلان موت المؤلف كي يولد القارئ، إذ كان من المستحيل أن نرى في القراءة فعلاً بحق من غير أن تتهاوى السلطة التي كانت تَدَّعي الهيمنة عليها. لزم، من أجل ذلك أولاً، إعادة النظر في مسألة دلالة النص، والطرَف الذي يتمكن منها. منذ بدايات القرن الماضي كان الشاعر الفرنسي بول فاليري قد قام ضد السعي وراء اعتبار مُوقِّعَ العمل المدرِكَ الوحيد للمعنى، يقول: «ليس هناك معنى حقيقي للنص، ولا سلطة للمؤلف عليه. فمهما كان ما يريد قوله، فإنه قد كتب ما كتب. فما إن يُنشَر النص حتى يغدو مثل جهاز يمكن لكل منا أن يستعمله حسب هواه ووفق الوسائل التي يتوافر عليها، وليس من المؤكد أن واضع الجهاز قد يستعمله أحسن مما سيستعمله غيره.. وهكذا يستمر العمل الأدبي في الوجود من حيث إنه قادر على أن يظهر على غير ما وضَعه مؤلفه». حينئذ ستصبح القراءة هي الفضاء الوحيد الذي تتحقق فيه الدلالات المتعددة. كتب ر.بارت: «النص وليد كتابات متعددة، تنحدر من عدة ثقافات فتدخل في حوار وتقلّد بعضها وتدخل معه في جدال. لكنّ هناك موقعاً يتجمع عنده هذا التعدد، هذا الموقع ليس هو المؤلف، كما قيل حتى الآن، وإنما القارئ». القارئ هو الذي يفعل في النص. وهذا القارئ متعدد. للنص قراء متعددون، لا يعني ذلك فحسب أن هناك أفراداً مختلفين يمكنهم أن يقرؤوا النص ذاته، وإنما يعني أيضاً، وعلى حدّ تعبير ر.بارث، «أنّ كل جسدٍ قارئ ينطوي على إيقاعات مختلفة من الذكاء للتفاعل مع النص حسب الأيام وحسب الصفحات».

قراءة.. وقراءة
ليست القراءات متكافئة، وقد سبق للفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير أن ميّز أساساً بين نوعين من القراءة: ما دعاه قراءة منفعلة وما سماه قراءة فعالة. تقف القراءة الأولى أمام المقروء سلبية متلقية، وهي تَؤُول إلى ذلك الفعل السحري البسيط الذي يلغي المادة المكتوبة ليتمكن من روح النص، والنفاذ إلى أغواره، والإنصات إلى «صوته»، والْتقاط معناه.
تقوم هذه القراءة على إبستيمولوجيا المباشرة وعلى ميتافيزيقا الحضور، وهي تؤول في نهاية الأمر إلى مجرد الشرح والتعليق، معتبرة أن هدفها هو بلوغ ما قيل، وإدراك ما تم إثباته والتدليل عليه. إنها إذاً قراءة شارحة تحاول أن تنفذ إلى أعماق النص لإدراك الحقيقة التي يحملها، والتي أودعها إياه كاتبه، بعد أن دارت بخلده وجالت في فكره. هذه القراءة هي ما يدعوه بارت، «القراءة الميتة» (الخاضعة للنماذج المكرورة والقوالب الذهنية وعبارات الأمر)، إلا أن هناك من حسن الحظ قراءات أخرى، يدعوها بارت «القراءات الحية»، «المنتجة لنص يتناسب مع كتابة افتراضية للقارئ». تلك هي التي يدعوها ألتوسير القراءة الفعّالة المنتجة المحوّلة التي تُوَلّد النّص اللامكتوب، الذي لا يكون مجال الكتابة إلا علامة عليه وعرَضاً من أعراضه. وهي نفسها التي سبق لنيتشه أن سماها قراءة «مشخصة للأعراض» لأنها تفحص النص، وتتوقف عند «أعراضه»، «لتكشف اللامنكشف في النص الذي تقرأه فتردّه إلى نص آخر حاضر بغيابه الضروري في النص الأول». هذه القراءة لا تقرأ «النص» على أنه كتاب مفتوح يعطي للقارئ معانيَه فوراً، وإنما على أنه نص منفلت عن نفسه متباعد عنها، وهو تباعد لا يكون راجعاً لنقائص القارئ وقصوره المنهجي.
هذه القراءة الثانية إذاً قراءة متشككة تتهم المباشر وترفض البداهات، وهي تسعى إلى أن تكشف في بياض النص المُسَوَّدة التي تختفي من ورائه، تحاول أن تنعش مسوَّدة النص، تحاول أن تنتج العملية الفعلية للكتابة، تلك العملية التي ليست عملية إظهار وتملّك للمعنى الوحيد والحقيقة المطلقة، وإنما، كما قال الفيلسوف الألماني، «عملية توليد الاستعارات». تقوم هذه القراءة إذاً على إبستمولوجيا اللامباشرة التي تتنافى مع الحدوس الأوَّلية، والتي تعتبر أن الحدس ليس معطى أولَ، وأن لا وجود لمعرفة أولى، وأن كل معرفة هي لفّ ودوران، وأن تملّك المعاني نهاية درب، وأن التستُّر من محدداتِ كل حقيقة.

طبقات القراءة
بإمكاننا أن نقول إن القراءة مفهومة على هذا النحو لا تعمل إلا على تأكيد ما تُجمع عليه التيارات الفكرية الأساسية المعاصرة. في هذا الصدد يرى كلود ليفي- ستروس أن هذه الاتجاهات تلتقي كلها عند هذه المسألة. فالمادية التاريخية والتحليل النفسي، شأنهما شأن علم الجيولوجيا، تريان «أن الواقع الحقيقي ليس أكثر الوقائع ظهوراً وتجلياً، وأن طبيعة الحقيقي تتجلى في حرصه على الاحتجاب». على هذا النحو نفسه يحدد هايدغر «الحقيقة» التي يفضّل أن يسميها «اللاتحَجُّب». لا ينبغي أن نفهم الحرص على الاحتجاب هنا إخفاء لأسرار، وإنما خاصية أنطولوجية تجعل اللاتحَجُّب من صميم الحقيقة، والاختفاء من صميم الظهور. إنها إذاً خاصية الانفلات التي تجعل الواقع لا يعطينا نفسه إلا بقدر ما ينفلت ويهرب، فترى إلى النص على أنه مكوَّن من «طبقات».
لا بد أن نؤكد هنا أن هذا الطَّرح يتمُّ خارج فلسفات الكوجيتو، خارج فلسفات الذاتية. فالأمر لا يتعلق بذات ناظرة تقهرها صعوبة التأويل، وإنما بنص يفيض لوحده، نصّ، كما يقول ألتوسير، لا يعطينا نفسه إلا في ما يحجبه، وبالضبط «في ما يحمله في طياته من رخاوة، خلف مظهر أقوى الحقائق بداهة، في الصمت الذي يتخلل خطابه، والنقص الذي يُعوز مفاهيمه، والبياض الذي يتسلل إلى سواد كتابته الدقيقة». ومجمل القول، في كل ما ينطوي على خواء رغم امتلائه.
لا بد للقراءة، والحالة هذه، أن تغدو فعلاً منتجاً بالمعنى الذي يعطيه الاقتصاديون للكلمة، أي فعلاً محوّلًا، يعتبر أن كل إنتاج هو دوماً إعادة إنتاج، وأن كل قراءة وتأويل، هما دوماً إعادة قراءة وإعادة تأويل، وأن العالم البشري هو عالم المعاني «الثانوية»، عالم الاستعارات. أما المعنى الأول، فهو على حدّ تعبير رولان بارث «أسطورة علمية».
هذه الاستعارية تجعل القراءة لا تنفصل عن الكتابة. كتب بارت: «المشكل المطروح الآن هو أن نجعل من القارئ كاتباً. إن جميع المسائل التي تطرحها القراءة ستختفي يوم نتمكن من جعل القارئ كاتباً بالقوة. فإذا قرأنا نصاً يظهر أنه عسير القراءة متابعين حركة كتابته فإننا لا بد وأن نفهمه فهماً جيداً».
لقد ساهمت المدرسة في تكريس الشرخ بين المؤلف والقارئ، بين الإنتاج والاستهلاك، حيث لا يكون شرح النص سوى استعادة لما سبق للمؤلف أن أراد قوله. لذا فنحن نعثر عند بارت على ما يمكن أن ندعوه «عودة للمؤلف» يسمح بها مفهوم يضم هذين الطرفين، القارئ والمؤلف، في اللعبة اللانهائية للدلالة: هذا المفهوم هو لذة النص: «لذة النص: هي اللحظة التي سيتّبع فيها جسدي أفكارَه الخاصة، ذلك أنه ليس لجسدي الأفكار نفسها التي لديّ ». هذا الجمع بين القارئ والمؤلف لا يحصل في أي قراءة كيفما اتفق، وإنما في تلك التي تضع الذات القارئة، ليس في تأمل ما حصل وتمّ قبلها، وإنما في ضرورة غزو النص واكتساحه وتملّكه.
على هذا النحو لن تعود القراءة استعادة للمعنى الذي أودعه المؤلف النصَّ؛ إذ ستغدو بناءً للمعاني constituer وليست استعادة لبنائها reconstituer. إنها عملية إنتاج وتحويل. إذا كان القارئ هو الذي يبني النص، فهو أيضاً مفعولُه وهو أيضاً يُبنى من طرف النص. يستسلم القارئ في البداية لإكراهات النص فيقبَل اللَّعب وفق قواعد لم يضعها. إنه يكون أمام موضوع لم ينجزه، ومع ذلك يكون عليه أن يبنيه. من أجل ذلك يميز بارت بين النص المقروء lisible، وهو مثل اللذة، من مستوى الاستهلاك الثقافي. وبين النص «القابل لأن تعاد كتابته scriptible» فهو ينتمي للمتعة ويرتبط بالدلالة signifiance. تعود الفعالية الرمزية للقارئ، وهي تسود على القواعد والشفرات فتعطي للنص بنيته. إنها مصدر المعاني الثانوية التي تجعل من كل قراءة عملاً لا يمكن توقعه. ذلك أن قارئ النص في النهاية ليس إلا اللغة، كتب بارث: «أن تقرأ، هو بالفعل عمل تقوم به اللغة. أن تقرأ معناه أن تعثر على معانٍ، وأن تعثر على معانٍ معناه أن تسميها، إلا أن هذه المعاني التي تمت تسميتها تُقاد إلى أسماء أخرى. إن الأسماء تستدعي بعضها البعض وتتجمع ويتوق تجمعها إلى أن يُسمَّى من جديد. إنني أسمّي وأعيّن، وأسمي من جديد، وهكذا يتشكل النص: تسمية مستمرة واقتراب لا يكل: اشتغال كنايات».
تلكم هي القراءة الحيّة التي يتحدث عنها بارت، والتي«لا تحترم النص» Irrespectueuse ولا تخضع له، فهي ما تفتأ ترفع رأسها متوقفة؛ لا يقول صاحب «لذة النص» إنها تتم في استقلال، وإنما في «عدم احترام» للنص. إنها «ترفع رأسها» من حين إلى آخر، ليس إهمالاً للنص وعدم اهتمام به، وإنما من فرط ما يكتسحها من أفكار وما يخالجها من تنبيهات وما يخطر ببالها من ترابطات، تبعدها عن النص من غير أن تبعده عنها.

سرّ خلود النص
ليس هناك معنى حقيقي للنص، ولا سلطة للمؤلف عليه. فمهما كان ما يريد قوله، فإنه قد كتب ما كتب. فما إن يُنشَر النصُّ حتى يغدو مثل جهاز يمكن لكل منا أن يستعمله حسب هواه ووفق الوسائل التي يتوفر عليها، وليس من المؤكد أن واضع الجهاز قد يستعمله أحسن مما سيستعمله غيره... وهكذا يستمر العمل الأدبي في الوجود من حيث إنه قادر على أن يظهر على غير ما وضَعه مؤلفه.
...............................
الشاعر الفرنسي بول فاليري

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©