السبت 11 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

بداية الإحساس بصِغر عالمنا الأرضي.. نزْعُ الأسطورة

بداية الإحساس بصِغر عالمنا الأرضي.. نزْعُ الأسطورة
1 أغسطس 2019 04:06

د. عزالدين عناية

كانت لحظة فارقة في تاريخ البشريّة، حين وطأت قدمَا نيل أرمسترونغ سطحَ القمر. لم تكن العمليّة مجرّد إنجازٍ علميٍّ مبهِر، وإنّما كانت قَطعاً مع ماضٍ طويلٍ عاشته البشريّة من الحلم والرّومانسية، ومن الأسطورة والخرافة أيضاً، وهي تتملّى ذلك القرص، لتدخل في عصر من الواقعية والانكشاف. وكسائر أبناء جيلي من أهالي الرّيف الذين يتراءى لهم القمر رأي العين، ويتمثّلونه رفيقاً مؤنِساً في اللّيالي المقمِرة نهلتُ من خرافة القمر. كانت الوالدة كلّما سألتها عن سرّ القمر، وأنا منبهِر بكثرة النجوم المتناثرة حوله، إلاّ وأجابت إنّه امرأة مسخها المولى لأنّها أزالت قذارة ابنها بنعمة الربّ (أي الخبز)! وتسترسل في إعداد الشاي لوالدي وتجاذب أطراف الحديث معه.
اليوم، وبعد أن خطا أرمسترونغ خطواته على سطح القمر بشكلٍ شبه راقصٍ، تهاوت تلك الأساطير. فما تمثِّله بالفعل تلك الخطوات هو هجران نمطِ عيشٍ والدّخول في نمط جديد، وهو ما فتح آفاقاً رحبة. ليس معنى ذلك أنّ الإنجاز العلميّ انطلق منذ تلك اللّحظة الفارقة، كلاّ! ولكنّ ما حدث، بقدر ما خاطب عقولَنا هزّ مشاعرنا وأحلامنا الدّفينة أيضاً. كنّا نتفلسف عبر تقسيمات الكون إلى ما فوق القمر وما تحت القمر، وقد بات مدعاة للمزاح والفكه، والأرسطية ذات باع في هذا المجال؛ وكنّا نتعبّد أيضاً على مدى دهور طويلة بالشمس والقمر والنجوم، وهو ما مثّل مرحلة مهمّة في تاريخ البشر قاطبة، وغيرها من المواعيد التي ضربناها مع عناصر الطبيعة، بات كلّ ذلك بلا معنى وإرثاً من مواريث البشر المكدَّسة في أرشيف الكائن البشري.

حين ساد القمر
في بلاد الإغريق، مع مطلع الألفية الأولى، كان نفيُ أُلوهية القمر يعني انتهاكاً صارخاً للمقدّسات، وشهادة المؤرّخ بلوتارخس (عاش بين النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، ومطلع القرن الثاني) حول هذه النّقطة جليّة: «لا نستطيع الصّبر على هؤلاء الفيزيائيين والأرصاديين بإلحاقهم كلّ أمر بعِلل غير عاقلة، وبقوى غير واعية وثورات جبرية». كما نعرف أنّ أنكساغوراس الأقلازوماني، في عهد سابق، أُبعِد عن أثينا بتهمة الإلحاد، لقوله إنّ الشّمس والقمر كتلتان، إحداهما ملتهِبة والأخرى ترابية، تماثل طبيعتها الأجسام الأرضية. ولم ينجُ سقراط من هذا الكيد، فقد حاول تبرئة ذمّته في قوله: «لماذا تقول ذلك يا ملتوس فهل أنا لا أومن أنّ الشّمس والقمر آلهتان، كما تعتقد الدّهماء في ذلك» (المحاورة 14د). فوضع التصوّرات التقليدية للكون موضع تساؤل يعني مسّاً من سموّ الدّيانة الشعبية. يخلص أفلاطون في كتاب «القوانين 12» إلى الخلاصة الأليمة: «الأجسام السماويّة التي تتجلّى لأعينهم، تبدو مشحونة تراباً وحجراً ومادة فاقدة للحياة، ومع ذلك نسبوا إليها أساس التناسق الكوني، لقد كان ذلك وراء عدّة دعاوى مروق وعدّة تُهم بالإلحاد، ما جعل العديد ينفرون من دراسة هذه العلوم».
والعرب كسائر الشّعوب والأقوام سارت شوطاً في الشغف بالقمر، حدّ تأليهه وتقديسه، فهو «المقه» عند السبئيين، وهو «عم» عند القتبانيين، وهو «ود» عند المعينيين، وهو «سين» عند الحضارمة. ولخّص القرآن الكريم تلك الرّحلة في سيرة النبي إبراهيم (ع) في قوله تعالى: «فَلَمَّا رَأَى القمرَ بَازِغا قَال هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَم يهدِنِي رَبِّي لأكونَنَّ مِنَ الْقَومِ الضَالينَ» (الأنعام: 77)، واستمرّ ذلك التصويب للاعتقادات التي أَلِفها العرب إلى تاريخ قريب، يتوجّه القرآن الكريم إلى أتباع المصطفى بصريح القول: «لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقهنَّ إِنْ كُنتمْ إِيّاهُ تَعْبدُونَ» (فصّلت: 37).

معانقة الحقيقة
بعد هذا التقديم، الذي عرّجنا فيه على القمر كمحلّ للقداسة، ما معنى أن تعانق البشريّة الحقائق؟ أن تواجه قدرها بجسارة بعيداً عمّا قد يلفّه من أسْطَرة، وأن ترسم طريقها وتبني خلاصها بمنأى عن الأوهام. بكلمة مختصَرة أن تأخذ زمام أمورها بيدها، وهي تدرك أنّها في مستهلّ درْبٍ طويل. فليس الإيمان بالإنسان تنكّراً للإيمان كما قد يتراءى للبعض، وإنما هو إعادة وعي بالإيمان في حِلٍّ من الأَسْطَرة. إنّه عصر «نزع الأَسْطَرة»، كما أطلق عليه اللاهوتي رودولف بولتمان، فيه تُنزَع الغشاوة عن العالم بعيداً، عمّا تصوغه مخيّلتنا أو تصوِّره عواطفنا.
فبعد تلك القفزة الباهرة، حصلت رجّة مؤثّرة في العقل البشري، كان مُلَخّصها على أفواه الناس: «الناس وصلت للقمر!». لعلّ من آثار تلك القفزة أن تدفّقت ارتدادات من الشكّ اجتاحت زوايا عدّة من المعرفة وأوكاراً عشّش فيها الجهل أيضاً، حتى شاع القول بالحديث عن عصر النّهايات: نهاية الفلسفة، ونهاية الأدب، ونهاية الرواية، ونهاية الشعر، إلخ. لم تكن تلك النهايات محصورة بعالم الأفكار، بل اجتاحت مجاليْ المدنَّس والمقدَّس. وبعد تلك الفورة من الشكّ، يبدو أنّ الدّرسَ الأهمّ الذي خلُصت إليه البشرية، وهو التعويل على الإنسان في حلّ مشاكله. لقد ظهر ذلك التعويل في مجال تدبير العيش بالطريقة الأصْوب والأسْلم، حتى وإن أخطأ المرء وضلّ، وامتدّ التعويل الذّاتي إلى مجال المقدَّس. بِتنا نجد في الغرب صنفاً من التديّن يُعرِّف فيه المرء نفسه ثقافياً، بالانتماء إلى عقيدة معيَّنة، تغيب منها أو تفتر مراعاة الطقوس التقليدية، كما يصوغ المرء وبشكلٍ ذاتيّ مبادئه ورؤاه المستقلّة عن ضوابط المؤسّسة أو التقليد الديني السائد، وهو ما أطلقت عليه غرايس دافي «الاعتقاد من دون انتماء». ثمة شجاعة في خوض مغامَرة الوجود وجدت سنداً في اجتياح البحث العلميّ زوايا معتمة وربما كانت مسيَّجة، ما كانت لِتحدُثَ تلك الرجّة لولا تلك الخطوة الفارقة لأرمسترونغ.
في الواقع، كان ما فعله الرّجل من إنجاز فريق علميّ، فريق أبولو، الذي بقي عنواناً للعمل الجماعي، في قدرته الفائقة على تحويل المستحيل إلى ممكن. ولعلّ الشيء اللاّفت بعد تلك القفزة وهو تحرّر البحث العلميّ من الاحتكار، حتى بات لكلّ مقتدِر، ولكلّ مؤسَّسة، ولكلّ بلد، مَهْما تضاءلت القدرات، نصيبٌ للإسهام في الإنجازات، ما تيسّر الإيمان بالذات وتطوير المهارات وتنميتها والتعاطي معها بشكل منتظم. بات أنفار ومعاهد ومؤسسات، ممن كانوا في السابق مصنَّفين ضمن فضاءات العالم الثالث، يسهمون في هذا الحراك العلميّ العالمي المتدفّق. صحيح ليست الحظوظ متساوية بين الجميع، ولكن ما حصل وهو اليقين أنّ المثابَرة والإيمان بالقدرة البشرية «همْ رجالٌ ونحن رجالٌ» أمْسيَا دافعاً لتحقيق الإنجازات والابتكارات.

هزّات ارتداديّة في الوعي
بعد تلك الرحلة، دبَّ ما يشبه التنبّه إلى أنّ مصير عالمنا بين أيدينا، وهو ما خلّف حسّاً أنّ ما يحقّقه البشر من إنجازات وما يصنعونه من تهديدات أيضاً، في البرّ والبحر والجوّ، هي ما يمسّ الجميع، أكان بالسّوء أو بالنعيم. لقد ضاق عالمنا الأرضيّ وفَقَد تلك الرّحابة، بعد أن خرج الإنسان من عالم ما تحت القمر وحطّ في عالم القمر. فالشّيء الذي بات يتقاسمه الجميع وهو أنّ المخاطرَ التي تهدّد بلداً ما، تهدّد غيره، وأنّ النِّعَم التي تصيب بلداً هي نافعة لغيره. منذ ذلك العهد دبّ إحساسٌ قويّ بصِغر عالمنا الأرضي إلى حدّ بتنا ننعته بالقرية. وما التخوّف من السّلاح النّووي، ومن الإرهاب العالمي، ومن الأوبئة، ومن انتهاك حقوق الإنسان، ومن الأنظمة الشمولية، سوى تخوّف على مصائر هذه العائلة الكونية، التي باتت مترابطة في السرّاء والضرّاء، وهو في الحقيقة حسٌّ متأتٍّ من إدراكنا ما بات عليه عالمنا من تناهٍ.
كان نزول أرمسترونغ، على سطح القمر إنجازاً للإنسان قبل أن يكون إنجازاً لدولة أو شركة، أو مركز، فما عاد للإنجازات العلمية الكبرى هوية وطنية، ومن السّخف الإلحاح على طابعها القومي، هكذا جاء نزول الإنسان على سطح القمر. فقد كان النزول تتويجاً لمسار أبحاث علمية طويل وشاق، في الفلك والرّياضيات والفيزياء والطبّ، وبما يمتّ للعلوم الصحيحة بشكلٍ عام، انتهت بتحويل حلمٍ إلى واقع. بَيْد أنّ ذلك الإنجاز خلّف هزّة ارتدادية في الوعي البشريّ أيضاً، لا سيما في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية وفي الدراسات المثالية بشكل عام. كان السؤال وهو إلى أيّ مدى تبقى مصداقية لِما نقول وما نكتب، ما لم نحتكم إلى ضوابط عقلية صارمة؟ وهو انزياحٌ عفويّ نحو التشبّث بالمنجزات العلميّة.
ولذا، حتى الدّراسات اللاّهوتية في الغرب، التي تُصنّف ضمن العلوم المثالية، أو الغيبية كما نطلق عليها، بدأت تدنو من المقاربة العلمية الواقعية، من أجل تقديم خلاصة موضوعية بشأن الظواهر الدينية تحظى بالقبول على نطاق واسع، ولا تنحصر بمحيطها الضيق، كما كان سائداً سلفاً. وهو ما عبَّر عنه عالم الأديان الفرنسي ميشال مسلان، في كتاب «علم الأديان» (كلمة- أبوظبي 2009) بعبارات وجيزة: «أن نتابع الحفر في خندقنا، مع إلقاء نظرة بعيداً صوب الحقول الأخرى». ففي مستهلّ الدّراسات العلمية للأديان، شهدت الأوساط اللاهوتية الغربية نفوراً من المقاربات العلمية، التاريخية والسوسيولوجية والنفسية، بوصفها مدعاة للرّيبة والتشكيك في الموروث الديني؛ لكن تحوّلاً مُهمّا حصل في العقود الأخيرة، حيث بدأت تلك الأوساط اللاّهوتية في احتضان المناهج العلمية للظاهرة الدينية، لا سيما منها السوسيولوجية والأنثروبولوجية. معتمِدةً أحياناً تلك العلوم وموظِّفة مقولاتها وتفسيراتها، لفهم عوامل تراجع الدين أو تقدّمه، وفوران المقدّس أو خفوته، وانكماش العَلْمنة أو زحفها.
وبالتالي ثمة محاولات للاستعانة بالمداخِل العلمية، بقصد توظيفها لصالح المعتقَد الذاتي ودعمه. وإن أبدى اللاهوت المسيحي تخلُّصاً من تلك الريبة والخشية من المناهج الجديدة، مثمِّناً دورها حيناً وإسهامها في وعيه بذاته وبالعالم آخر، فالجليّ في الجانب الإسلامي غياب تلك المصالحة، إذ لا تزال هوّة عميقة فاصلة بين المناهج العلمية والعلوم الشّرعية. والمسألة عائدة بالأساس إلى مناهج التكوين الديني في جامعات العلوم الإسلامية.
فمنذ ذلك النزول على سطح القمر، شهد الوعي البشريّ تحوّلاً هائلاً، يمكن تلخيصه بقلب تلك المعادلة المثالية لعالم ما فوق القمر وما تحت القمر، أن بات بما قبل النزول على سطح القمر وما بعد النزول على سطح القمر. بعد أن كانت النظرة مغرَقة في المثالية في رؤية العالم صارت لا تبالي بتلك كثيراً، وتعوّل على المعارف العلمية في الشأن.
في الراهن، صحيح ثمة حركة متسارعة للإنجازات العلمية في مجالات عدة، ولكن تبقى مجمل تلك الإنجازات والتطبيقات خاضعة لاحتكارات ومونوبولات. فالمخترِع أو المبتكِر غالباً ما يتحوّل إلى مجرد أداة طيّعة لشركات عملاقة متمرّسة بسُبُل إغراء الباحثين وجلبهم إلى حضنها. فالمنجَز العلمي متاح لاستعمالات الناس، ولكن بقدر ما يجلب ربحاً ويدرّ مالاً، وهو ما يسود في مجالات الأدوية والصحة والأغذية والألبسة، وهي مجالات حيوية بالنسبة إلى الإنسان. نحن أمام تحدّي أَخْلَقَة المنجَز العلميّ وما حوله، وهو الشّاغل الأكبر اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©