الخميس 9 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فخ "لكن" في السعادة

فخ "لكن" في السعادة
6 سبتمبر 2018 00:07

في مشهد ختامي لفيلم «دكتور زيفاجو» يلمحُ البطل حبيبته الغائبة من نافذة الحافلة، وفي مُحاولة منه للحاق بها يُصاب بأزمة قلبية تودي بحياته، دون أن يكون لهذه الحبيبة دراية بما يحدث في عالم «رصيف المنتظرين» مواصلة طريقها.. هذا المشهد الدرامي يختصر لنا فكرة لهاث الإنسانية العاجز حتى الموت خلف السعادة التي لا تلتفت.

قد تكمن السعادة في المسافة ما بين حاجتك وحصولك عليها، تلك الفترة التي يعلم فيها الفرد ما يُريد ويسعى إليه والزمن الذي يتوج به بالذي يريده، ومع توسع حاجات الإنسان ندرك أن حصوله على الشيء لا يعني مطلقاً المحافظة على شعوره الأولي، فالحقيقة تُقر بأنهُ مخلوق اعتيادي، مما يطيح بالنشوة التي راهنا على أنها منتهى سعادتنا، لكن التجربة برهنت أن الأشياء تبرد ومعها تبرد تلك الفكرة السعيدة لتخلق حاجاتها الجديدة «إن أسوأ كابوس: هو سلسلة من الأيام المشمسة» يقُول غوته، لكن التعود لا يعني الترك دائماً.

السعادة المعلولة
إن كانت السعادة هي تفادي الآلام بمفهومها العمومي، فماذا يعنون لنا أولئك المُصابون بلذة الأذى، أذى الذات الذي يُمكنه أن يترك ندوباً جسدية أو أذى النفس، والذي يشمل الذات انطلاقاً من الآخرين؟
ترتبط السعادة بالأذية أيضاً وهي سعادة معلولة يسعى الإنسان فيها إلى إبراز الجانب الآخر لوجهها لكنها تبقى سعادة على علتها، لأنه ما من شخص يستطيع نفي الحالة فقط لأن الأسباب التي دفعت الآخرين إليها غير سليمة، فالسليم ونقيضه أبناء للبذرة ذاتها.
ويعد شوبنهاور فيلسوف التشاؤم الميتافيزيقي من حيث تقديم الألم على أنه مرارة فلسفية سعيدة، إذ لا يُمكننا الإمساك بالسعادة إلا على نحو سلبي من غياب الألم والمعاناة، ويرى في السعادة التي تُخرج الفرد عن سيطرته الذاتية وهو يلهث خلفها إلا نموذجاً عن الخطأ الوجودي لمفهوم أن يُصبح الإنسان سعيداً داخل المجالات الأكبر تكلفة عن ذاتيتِه، مما يُسبب له السُقوط في سعادات زائفة، ومن ثمة فالإنسان عند شوبنهاور لن يكون سعيداً ما دام يُعذّب من طرف من أسعد منه، وما دام ينظر في الاتجاه الخاطئ لفكرة وجوده فسيظل يربط مُجمل إرادته فيما يحققه الآخرون الذين غالباً ينظرُون في اتجاه آخراً للخطأ، رغم أن تحقيق الرضا يمنعكَ من أن تتجاهل توليفتك الخاصة بالابتعاد عن ميولاتك مقابل صناعة ما يميل إليه الآخرون كقاعدة، فالأشياء هلامية وما يفعله أي إنسان لن يكون قانوناً، ومع هذا فقد عُثر في مذكرات شوبنهاور الشخصية بعد موته على كتيب في طور الإنجاز بعنوان «فن أن تكون سعيداً».

عدّاؤو السعادة
لقد ظل الإنسان يبكي لحظة خُروجه إلى العالم، هذا البكاء علامة في العلم على أنه بخير فلماذا لم يُصبح بعدها سعادة؟ وإن كنا لسنا إلا عدائي سعادة، فهل ينطبق علينا مفهوم الرياضي الذي لا ينُجز شيئاً، باعتبار أن الموت ليس سعيداً عموماً؟
نفكر في السعادة بالقدر الذي نحب فيه ذاتنا، وتكبر الفكرة كلما كبر حيز الأشخاص الذين يشاركونك فيها، سعادة عالمية يعيشها المختلفون في الآن ذاته، مثل اكتشاف مصل جديد لمُصابين بداء خطير، الحل الوجودي لمعضلة التَعرض للخطر القاتل الذي يُسبب سعادة «الغالب» الذي يضعُ حداً لتمادي طُرق الموت، لكن رغم كون الإنسان مخلوقا متلوّنا بالآه والقهقه، فإنه حتى لو لم يُصب بحزن مباشر، فهو رهين ذكرياته مهما تقدم في النسيان، والذكرى مهما كانت طبيعتها سعيدة أو حزينة فمآلها التألم والحسرة، هي فكرة عابسة والوجه ذاته لخُروج الإنسان من الرحم، لكن كامو يطلب منا بل ويُلزمنا على رؤية سيزيف سعيداً، لأن الرؤية تكمُن في قوة تجاوز ما هو محكوُم عليك بمفهوم السماء إلى ما هو صائب بمفهوم الأرض، فالسعادة السمائية ليست هي ذاتها الأرضية، فسيزيف يرى فيه كامو الشخصية الميثولوجية السعيدة التي تعرف ما تريده، والتي ظلت تحمل الصخرة كأنما هي رمزية لتحمل المسؤولية حينما قام بتقييد إله الموت «ثاناتوس»، ويؤكد أن لا وجود لسعادة مطلقاً ما دامت الأشياء التي تؤمن بها، تختلف عن الأشياء التي تفعلها، لكن كامو يطلب منا الرؤية بالعين، وينسى سيزيف في حد ذاته، فهل ما نراه نحن سعادة الآخر هو سعادة الآخر فعلا أم هو سعادتنا؟ هل سعيد هذا الآخر فيما نراه نحن ويعيشُه هو؟
لا وجود لسعادة مُشتركة إذا كنا لم نجرب يوماً حمل صخرته عنه.

الفقد والامتلاك
يقُول ليو تولستوي: إننا نبحثُ عن السعادة غالباً وهي قريبة منا، كما نبحثُ في كثير من الأحيان عن النظّارة وهي فوق رؤوسنا.
أكثر الناس تفكيراً في السعادة لا يستطيعون غالباً الحصُول عليها، لا لأن حياتهم خلت منها، بل لأنها كانت لصيقة جداً بهم للدرجة التي أصبحت فيها لا مرئية، وأجدني أتفق مع مكسيم غوركي حينما نبهنا قائلاً: تبدو السعادة دائماً صغيرة عندما تُمسكها في يديك، لكنك إذا تركتها أدركت فوراً كم كانت كبيرة وغالية، فالأشياء لطالما اختبرت بخسارتنا لها لا بامتلاكنا إياها، الامتلاك عجلة يقُودها الزمن إلى التعود، ومن ثمة يُصبح ما نعتاده فجأة هامشياً، ونحتاج لفقدانه أو تعريضه لحالة خطر الفُقدان هذه المرة حتى نعُود إلى رشد اهتمامنا وبالتالي إلى رشد سعادتنا به، فكلنا نُريد السعادة، لكننا لن نحصل على السعادة نفسها، لأننا لا نملكُ الحاجة نفسها، كلنا نحصل على ما نعتقده سعادة، ولكن لا يحصل كلنا على الطريقة التي ذهب بها الآخر إليها، فإن كان ثمة من يذهب إليها عن طريق الحرب فهنالك أكيد من يذهب إليها عن طريق الاستسلام، وإن كان يذهب إليها آخرون عن طريق الإشباع فآخرون يحصرونها في الزهد، وبهذا فالحديث عنها هو حديث الماء داخل الغربال، لو وضعت البحر كله فيه، لا يعني في الأخير أنك حصلت على البحر كله لمفهوم السعادة، فإن لم تكن حقٌ وجودي فإنها فكرة خيالية، ذلك أنه في داخل كل حلم يُقتاد الإنسان من أقدام تطلعاته نحو تحقيق الأشياء التي يُريد إنزالها من عقله وحُلمه إلى أرض الواقع، فيظهر لنا في صورة مُلاحِق أكثر مما يظهر على هيئة مُلاحَق، وكما يصعب الإحاطة الكلية بكل ما هو خيالي، يصعب كذلك الإحاطة بالسعادة، فهي المفهُوم الذي لا يُضبط ويُستقر على غاية فردية تعمم، فقد ترتبط عند الجُموع بالإشباع الجسدي والحسي من اللذات والمتطلبات الفيزيولوجية، وتظهر مماثلة للعقل وخادمة للفلسفة والمعرفة عند الفلاسفة، وهي تجلّي الباطن وكشف للحجب وارتماءٌ روحاني في أحضان المعشوق عند المتصوفة، إلخ..

الفردية والجماعية
لكن هل يُمكننا الإقرار في عالم تملؤه البضائع بوجود سعادة أصيلة؟ وهل السعادة الفردية كافية لنقول عن الجماعة أنهم سعداء؟ كيف يحمي الإنسان ذاته من الخوف والقلق حينما يجرب فقدان الغاية التي أسعدته؟
يعيش الإنسان أكثر الحالات الوجودية في فردانية تامة، إذ لا يُمكن اعتبار العالم سعيداً لأن شخصاً يعيش سعادته، تحقيق الرغبة الذاتية ذاتي إلى أن تصبح تلك الرغبة جماعية، هذا الشأن تُقدمه الفلسفة على رأي الفيلسوف ألان باديو، لكن حينما تتعلق بالإشباع فإنها تُصبح الوجه الأناني الذي يتماشى مع المبادئ الكونية المحكومة بوحدة المال، لقد وقع الناس في فخ السعادة المبتذلة لأن هذا العالم ما هو إلا مجموعة من البشر المنتمين إلى سعادة عالم الأرقام، وفي هذا العالم تحول الإنسان إلى عجلة استهلاكية ومعه تحولت السعادة إلى مجرد بضاعة داخل الرأسمالية المتنمرة، إنه عالم من المرتدين الذين ينسبون لهذه السوق البالوعة. ويصرخ سيوران في حديثه قائلا:ً بمجرد التفكير في أن لا أكون ولدت، أي سعادة! أي حرية!».
التحرر الكلي من المخاوف والقلق الوجودي الذي يرتبط دائماً عند الأشخاص في سعيهم لما يُرضيهم، وبالتالي يجلب لهم الاسترخاء الفلسفي، هو التحرر من الحياة بكليتها، أي ما يعادل العدم، عدم وجودِه في الأصل، لكن الحقيقة تطرح شكلها الآخر، وهي وجوديته على ساحة الصراعات الوجودية، فهو مصاب بالضرورة بالقلق والمخاوف، وحينما وضع غاياته في الموجُودات لم يكُ ربما يفهم بدايةً أن دوران هذه الموجودات لا يعني بتاتًا وصُول دوره في دائرة الدوران المتسعة باعتباره كائناً وُجد ليموت، فمساره محصُور في نقاط متناهية، بينما غاياته التي لن يحصل عليها لا لأنها غير موجودة بل لأنها ما بعد نقطة زواله، ولا يتوقف الحديث فيما يخص السعادة على ما هو مُستحيل في أصله، بل فيما هو ممكن ثم يتحول إلى علة، فنجد أشخاصاً يلوذون للشهوات يُصابون بعدها بعجز جنسي، أو أشخاصا يختصرُون نشوتهم في الأكل، فيُعانون بعدها بتقرحات شديدة في المعدة، وفلاسفة وعقلانيين يُصابون بالجنون، إلخ..
لهذا فالإنسان لا يكون سعيداً لأنه أراد أن يكون سعيداً فحسب، بل لأنه لن يكون سعيداً إلا إذا تخلصت سعادته مما يربطها بها، خاصة إذا تعلق الأمر بإنسان آخر، فهذا المخلوق زائل سواء بالرحيل عن حياتك أو بالرحيل عن الحياة، ومن ثمة كان لابد من ظهور اللامتناهي الذي لا يموت ولا يُمتلك، حتى يتخلص الإنسان من كل ذلك القلق والخوف لأنه لا يستطيعُ بناء سعادته على مساحة عدمية.

أفكار الخلاص
وفي الفكر الإسلامي المتواصل بالمفاهيم الإنسانية ظهرت أفكار السعادة والسعي خلف الخلاص محتلة مكانة ليست بالبسيطة، والأمر ذاته في كل الديانات التوحيدية الثلاثة، فـ«الله» لا حدود له من الطمأنينة، خاصة وأنه يمنحُ الجنة، ويغفر أخطاء بحجم زبد البحر، والأهم أنه خالد لا يزول، فالحديث عن السعادة الدنيوية التي تنتظر مقابلاً في الآخرة هو حديث عن حب ما يمنحه لك اللامتناهي طمعاً في السعادة الموعودة، وهي في الحقيقة سعادة متصلة بالتمركز اللاهوتي، كمن لا يسرق لأنه تصرف أخلاقي سيء بل مخافة من الله.
فيسأل سبينوزا: ما السبيل إلى تحصيل السعادة؟ مما يعني أن الإنسان لا يُولد سعيداً، بل يولد ليُسعد ذاته، ويقدم لنا السعادة على أنها رديف للقوة الأخلاقية التي تُؤمن بجوهرها اللامتناهي، ولما كان هذا الجوهر هو «الله» فإن بحبه تتمحور السعادة التي يبتغيها الإنسان، هذا الحب الذي لا يترك مجالاً للآلام والانفعالات مثلما تفعل اللذة التي يدعمها الأبيقوريون، وبالتالي يتولد إنسان مُتحرر من مخاوفه، ما دام كل شخص ربط سعادته باللذة هو شخص غير مطمئن وجودياً، ومعرفة هذا الإله عند سبينوزا نابعة من العقل، ويرى أن الرجل الحكيم هو ذلك الذي يتأمل في الحياة لا في الموت، إذ يحُس أنه مشارك في وحدة الكون، أي من حيث هو فكر وامتداد..ومذهب سبينوزا الجبري يقر: بأن الإنسان ما هو إلا كائن خاضع لقوانين الطبيعة الذي هو جزء منها، أي معرفة الطبيعة بمنظورها الأزلي. لكن هل المعرفة سعادة؟ وماذا عن الموت اللامتناهي عند العدمي نتشيه؟ كلما عرف الإنسان زاد شقاؤه، لهذا فإن الموت اللامتناهي عند نتشيه هو إعلان عن موت القيم والمثل العليا والأخلاق المنبعثة من الأديان، هو موت كل ميتافيزيقي وكل المثاليات بما فيها مثالية السعادة، هكذا سقط العالم في العدم وخلافاً لأرسطو وأفلاطون جعل نتشيه تصادم الرغبات وليس انسجامها ما يصنع البهجة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©