أتساءل دوماً لو خاصمنا الهاتف لمدة أسبوع ماذا سيحدث؟
هذا السؤال يقودنا إلى مشكلة التعلق، وهي المشكلة التي تقيد الإرادة، وتحبس العزيمة وتعمي البصر والبصيرة عن رؤية الحقيقة، وهي أن الإنسان عندما يتعلق بشيء أو بشخص ما، فإنه يصبح عبداً لهذا الشيء أو ذاك الإنسان.
في التعلق يصبح الفرد لا يرى أمامه سوى ما تعلق به، ومن ثم يكون في العالم وحيداً في وجه العاصفة، ضعيفاً ذليلاً مهاناً معذباً مستلباً، لا يملك حياة ولا قوة للفكاك إلا في حالة واحدة، إذا تمكن من الرجوع إلى المخلفات التي تراكمت على صدره، وجثمت على عقله، وتحكمت في قلبه في هذه الحالة يقوم الفرد بعقد دراسة حالة لنفسه، وبالتالي يكشف عن أسرار هذا التعلق، ويكتشف أنه كان يعيش تحت سطوة خرافة، وأن الأداة التي لا تزيد عن حجم الكف ليست إلا أسطورة تاريخية انبعثت إلينا عن طريق عقول أخرى استطاعت بذكاء خارق أن تكرس هذه الأداة أي الهاتف بأنه قوة سحرية تطوق حياتنا، كما تتحكم في بربريتنا على حد سواء ولا غنى لنا عنها بأي حال من الأحوال، وللأسف ليست حقيقة وإنما هي طقس مبعثه خرافة بأننا لا يمكننا الاستغناء عن الهاتف ولو للحظة؛ لأنه جزء من حياتنا وحياتنا مركبة من قوة سمعية رهيبة لا حدود لمجالاتها ولا سطوة لنا علينا.
أقول هذه خرافة والدليل أن الإنسان استقل مركب الحضارات منذ مئات السنين واستطاع أن يتنقل ويتواصل ويحقق أمنيات وآمالاً وتطلعات هي التي أوصلتنا اليوم لذروة التقدم، وهي التي جعلت التقدم سمة البشرية، والتأخر صفة من صفات الأغبياء.
السؤال الآن: إذا كانت هي الحضارة التي صنعت كل هذا التقدم المبهر، والهاتف جزء لا يتجزأ من دورة التقدم التكنولوجي الذي نفتخر به، فلماذا نستنكر وجوده في حياتنا بالشكل الذي نراه في واقعنا؟
الجواب هو أن لا أحد ينكر ضرورة الهاتف في زمن تتنقل فيه مركبة العلاقات البشرية بسرعة فائقة، وتتوسع العلاقات على أثر وجود هذا الكائن السحري والمشكلة التي نتحدث عنها هي سطوة الهاتف وسيطرته وغطرسته على سلوكنا واستيلائه على أغلب شؤوننا الحياتية والعائلية، كما أنه طغى على الحياة الاجتماعية، بحيث اختفت تلك القماشة الحريرية التي تغطي الجسم الاجتماعي وتمنحه الشفافية، بل والعفوية، وقد كان الناس يتواصلون ويتنقلون من مدينة إلى أخرى ليزوروا صديقاً أو قريباً وبوسائل مواصلات بدائية، بينما اليوم الانشغال الذاتي بالهاتف حجب الرؤية ولم يعد الفرد منا يرى غير نفسه، مما استدعي هجرانه المحيط الذي حوله فليس النأي بالنفس منع الإنسان من زيارة البعيدين، بل إن أفراد الأسرة الواحدة والذين يعيشون تحت سقف واحد قد لا يرون بعضهم إلا بالمصادفة؛ لأن الأشخاص اليوم اختصروا العلاقات إلى جهاز جامد وبلا مشاعر، إنه ناقل فقط وناقل لصور وأحداث صماء قد لا تعني المشاهد لها بشيء، فقط هي حجاب يعتم الصورة الاجتماعية، ليبرز العزلة الرهيبة، ويظهر حالة توحد بالآلة، حيث أصبح الإنسان ترساً في هذه الآلة، كما قال مارتن هايدجر.