تفعل فينا الشوارع وأرصفة المدن، فلا تترك عشاق المدن في حالهم ولحالهم، وهم لا يتركونها دون أن يتركوا شيئاً منهم هناك، شخصياً أعشق أرصفة المدن، وأجد في تجوالي وتسكعي ومشيتي البطيئة والمتوقفة والمتأملة روح ذلك الصعلوك المتأنق دوماً، صديق أرصفة المدن، صديق الرسامين على أطرافها، الماكثين والعابرين، صديق الموسيقيين المرتحلين، صديق المواهب الضائعة، قد نترك المدن لكن يبقى لأرصفتها ذاك الصدى في ثنايا الذاكرة، وجر ربابة السنوات الماضية حين كنا نسرح ونمرح، مُشرّقين مُغرّبين، حاملين الذكريات التي استودعناها الأماكن والطرقات والمقاهي، قد نتذكر إفطاراً شهياً على شرفات جنيف، عشاء فاخراً بصحبة جميلة في مطعم «البيت الأبيض» الباريسي، حتى وجبة الرز «البرياني» الذي كنا نتختل، ونحن ذاهبون نذرع الطرق الضيقة لذلك المطعم الباكستاني في لندن، أصبحنا اليوم نتشهى الأشياء والأمكنة، بنفس عافيتنا وعافيتها، نعيد تأملنا في الوجوه على أرصفة الطرقات، وما مر علينا في ذاك التجوال في مدن الله الكثيرة. 
من بين تلك الأمور التي طالما أجبرتني على التوقف أمامها، ولا تدعني أمر، منظر الموسيقيّ الذي يعزف على آلته المحببة في المدن وشوارعها ومحطات قطاراتها وأنفاقها، تحت جسورها، على أرصفة المقاهي، وحتى في نواديها الراقية، لا يمكنني أن أغادر دون أن أضع في قبعته أو محفظة آلته الجلدية شيئاً من النقود الورقية، فأنا لا أطيق العملة المعدنية، وأشعر بثقل إن كانت في جيبي، ويلازمني الضيق منها، لا أدري لماذا! وأكره من يرجع لي «خردة» معدنية من زمان، أنا أحب الورق منذ صغري، لكن غير النقود لابد من كلمة شكر، ولو بالعين أو رفع قبعة أو ابتسامة رضا تفرحه، أنا صديق موسيقيي الشوارع والأرصفة، وأحمل لهم شيئاً من العطف، وكثيراً من الاحترام، وأحرص، إن كان يبيع أسطوانة أو شريطاً أو قرصاً لبعض معزوفاته، على أن اقتني منه، حتى أصبحت لدي مكتبة صغيرة لفناني الشوارع من مختلف المدن، مثلما عندي خزينة من لوحات رسامي أرصفة المدن المنتقاة. 
إن كان هؤلاء الفنانون مدعاة إعجاب فآلاتهم الموسيقية جديرة بالمحادثة والمحاورة، خاصة العزيزة على القلب، والقريبة من الروح، فلطالما وددت لو تحدثت على انفراد مع بعض الآلات الموسيقية، ثمة حوار بعضه طويل، وبعضه جميل، وبعضه الآخر سابح في عمق أشياء الحياة، لا يمكن أن أرى آلة موسيقية في الشارع تناديني، ولا أتوقف محباً لا مجبراً، لا يمكنني إلا أن أتعاطف مع أولئك العازفين البائسين، منهم بنصف موهبة، لكن الفقر يدق عظمه، بعضهم ضائع مع موهبته الجميلة بين الحياة والحظ الذي قد يتأخر طويلاً، وقد لا يأتي، وبعضهم الآخر، يمارس الأسفار في المدن متأبطاً موسيقاه التي تعينه على الحياة، وعدم السقوط جوعاً على الأرصفة الكثيرة، هناك بعض الآلات التي أحب صوتها، وأراها بصورة مختلفة ككائنات صوتية في الحياة لا تؤذي أحداً، كثيراً ما تستدعي دمعاً هارباً، وكثيراً ما ترقّص القلب بين الضلوع، وكثيراً ما يأتي نغمها محملاً بصور جميلة مسافرة في الرأس، وكثيراً جداً تجعل النفس تهدئ من ضجيجها، وشرورها، ناشدة الحب الذي فيها، كذلك السكسفون.. آلهة الليل حين تنزل من عليائها الجبلية، تضمد بصوتها المسكون المتعبين من وحشة الزرقة، وتهدهد ما هو جميل في غياب الشمس، مثل مطر باغت الطرقات مثلاً أو عاشق يبحث عن وجه فلت منه في الزحام أو قلوب متصدعة بلوعة الفراق أو هناك سفر قد يحطم شيئاً غير الزجاج.. وغداً نكمل