الإثنين 13 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

باسكال.. فيلسوف السعادة

بليز باسكال
13 يوليو 2023 01:21

إميل أمين

تحتفل فرنسا هذه الأيام بالذكرى المئوية الرابعة لمولد أحد أهم رجالات الفكر والفلسفة، ولا نغالي إن قلنا إن كتاباته أسهمت بقوة في إرساء مسارات التنوير ومساقات العقلانية في أوروبا أوائل القرن السابع عشر. إنه «بليز باسكال» (1623-1662)، الفيلسوف الفرنسي، وعلى رغم أنه لم يعش أكثر من تسع وثلاثين سنة، إلا أنه أمضاها في خضم نزعة متنامية من الشك الفلسفي، باحثاً عن السعادة الحقيقية، متنبهاً لحاجات الفقراء، قلقاً على الدوام، تجذبه «آفاق جديدة وإضافة إبداعية يوماً تلو آخر».وفي مدينة «كليرمون - فرّان» بفرنسا، كان مولد بليز باسكال، حيث عاش حياة قصيرة لكن مفعمة بالأحداث والانفعالات، فقد رحلت والدته وهو بعد في الثالثة من عمره، تاركة وراءها زوجاً قاضياً ومثقفاً رفيع المستوى المعرفي، ولاسيما في مجال علم الرياضيات، وثلاثة أطفال تبلغ أكبرهم ست سنوات، وكان بليز أصغرهم. واهتم الأب بتعليم صغاره تعليماً راقياً متميزاً، وبدا نبوغ باسكال مبكراً وخاصة في علوم الرياضيات والهندسة، التي جذب الأنظار تميزه فيها منذ بلغ الحادية عشرة من عمره.
نهم الرياضيات
وأراد الأب أن يصرف باسكال الصغير عن الانغماس الكامل في دراسة الرياضيات، وأن يتفرغ لدراسة اللغتين اليونانية واللاتينية، ولكن الفتى الذي قرأ كتاب «العناصر لإقليدس» وهو في الثانية عشرة من عمره، مضى منشغلاً بشكل نهم منذ عام 1639 بدراسة قضايا رياضية متصلة بالدائرة والمخروط والكرة والأمكنة الهندسية لنقطة متغيرة.
وفي هذا السياق، يمكن اعتبار باسكال مؤسس العلم الخاص بـ«حساب الاحتمالات»، كما أنه يعتبر مخترع إحدى أوائل الآلات الحاسبة، التي قادت إلى الأنساق الحديثة المتوافرة في أيدينا اليوم. وإلى جانب الهندسة متناهية الصغر، عالج باسكال أيضاً الهندسة الإسقاطية، كما تناول المخروطيات، وبعدها القطاعات.
وكان «إتيان باسكال»، والد بليز المهتم بالعلوم وصديق كبار علماء الفيزياء والرياضيات في عصره، الركيزة الأساسية التي ساعدت في ظهور عبقرية ابنه، إضافة إلى دعم شقيقتيه جيلبرت وجاكلين، ما وفر له أجواء من الهدوء النفسي أشبع خلالها شغفه بالمعرفة، وسمحت له بمتابعة دراساته وأبحاثه العلمية.
كما اختلط بليز باسكال مبكراً بعلماء فرنسا ومفكريها وفلاسفتها الكبار في زمنه، وعلى رأسهم رينيه ديكارت، الذي استقبله في باريس مرتين، إلى جانب لقاءاته مع عالم الرياضيات اللامع بيير دوفيرمات.
حدود الحقيقة
وآمن باسكال بأن هناك حدوداً للحقائق التي يمكن أن يدركها العقل، وأن الإيمان من القلب هو المرشد الرئيس إلى الحقائق، وربما لم تتبلور هذه التوجهات إلا بعد حادثة طريق نجا منها بأعجوبة. وعانى لسنوات طويلة من مرض غامض، عجز الأطباء في عصره عن تشخيصه أو علاجه، فقد كان خليطاً من آلام مبرحة في الرأس والمعدة والبطن، مصحوبة بتشنجات في الأطراف وصلت إلى حد الشلل الذي أعجز ساقيه عن الحركة، بسبب البرودة التي كانت تشملهما.
ولكن المرض لم يقعده، أو يعجزه عن الإنتاج الأدبي الإبداعي، الذي تمثل في العديد من المؤلفات في مقدمتها عملان تاريخيان لا يزالان يشكلان «درة التاج» في الأدب الفرنسي، هما كتاب «الأفكار أو الخواطر» وكتاب «الرسائل الريفية». ونشر كتاب «الخواطر أو الأفكار» تحديداً عام 1670، أي بعد رحيل باسكال، وهو عبارة عن شذرات أو تأملات في الفلسفة والدين، وزعها على وريقات علقها بخيط رفيع من دون أن يكون ثمة ترابط بينها.
وبحسب الناقد الفرنسي الشهير «سانت بوف» تعد كتابات بليز باسكال الأدبية والفلسفية من أفضل ما كتب في اللغة الفرنسية، بل إن كتاباته تمثل انتفاضة في وجه العقلانية المتشددة والمادية المطلقة والتزمت الأعمى.
السعادة الحقيقية
وفي الذكرى المئوية الرابعة لمولده، وتقديراً من حاضرة الفاتيكان لأهمية باسكال مفكراً وفيلسوفاً، أصدر البابا فرنسيس «رسالة رسولية» عنوانها «عظَمة الإنسان وبؤسه» Sublimitas et miseria) hominis). وفيها وصف فرنسيس باسكال بأنه «رفيق سفر يرافقنا بحثاً عن السعادة والحقيقة»، ولاسيما أن حياته تدفعنا في إطار تحفيز عالمنا المعاصر، وخاصة ذوي الإرادة الصالحة، للبحث عن السعادة الحقيقية.
وعلى رغم أن باسكال كان معجباً بحكمة الفلاسفة اليونانيين القدماء إلا أنه ظل يؤكد على أن العقل وحده لا يمكن أن «يحل المسائل الأسمى والأكثر إلحاحاً».
وبسرعة برزت أعمال باسكال في فرنسا قبل ظهور فترة الحداثة، وانطلاق شرارة التنوير، وقد تركت كتاباته أثراً على ما تلاها من نقاشات ولاسيما في عالم الأخلاق. كما لعب دوراً كبيراً وفاعلاً في الدفاع عن الإيمان بوجود الخالق، أمام الملحدين الفرنسيين خاصة، والأوروبيين عامة، الذين ملؤوا الأرجاء في ذلك الزمن.
ولم يكن باسكال مفكراً ساكناً في برج عاجي، منعزلاً عن زمنه وشعبه، بل كان متنبهاً للمشاكل الاجتماعية إلى درجة أنه «لم ينغلق أبداً عن الآخرين» ولا حتى في مرضه الأخير.
ومن الإنجازات العملية يذكر لباسكال أيضاً أنه قد ابتكر أول شبكة مواصلات عامة في التاريخ، وكان ذلك في العاصمة الفرنسية باريس عام 1661.
إشكالية المفارقات
واهتم باسكال بإشكالية المفارقات التي تنتاب الحالة البشرية طالما بقي الإنسان في هذه الحياة، إذ يذكر دوماً أن هناك «تفاوتاً لا يطاق بين إرادتنا اللامتناهية في أن نكون سعداء وأن نعرف الحقيقة من جهة، وعقلنا المحدود وضعفنا الجسدي الذي يؤدي إلى الموت في نهاية المطاف من جهة ثانية، وهو الضعف نفسه الذي يهددنا في كل لحظة طالما بقينا أحياء». وفي هذا السياق يتساءل باسكال: لماذا لا يمكن للإنسان أن يبقى وحيداً في نفسه؟ ويجيب بأن السبب مرده «بؤس الإنسان وعدم اليقين حول مصيره، وهما أمران لا يطاقان بالنسبة إليه».
وهكذا يبحث المرء عن طريقه لكي يلهي نفسه، ومن هنا كذلك تأتي المقولة المشهورة «البشر يحبون الصخب والحركة»، ويقوم ذلك من خلال العمل والعلاقات العائلية والصداقات، فيختبر هكذا انطباعه وفراغه، وكذلك مشاعر الملل والحزن، بل وربما اليأس أحياناً.
بُعد روحي
وتقودنا رؤية باسكال هذه لتساؤل عميق وجذري عن فكرة ما يسميه «الهاوية اللامتناهية» التي تخشاها النفس البشرية، وما إذا كان الأمر صحيحاً من عدمه؟ يظهر هنا باسكال بإيمانه الخلاق، معتبراً أن هذا بالفعل حال النفس البشرية، تلك التي لا يمكن ملؤها إلا بشيء لامتناهٍ وثابت، أي ببعد روحي. ومن هنا ندرك لماذا اعتبر باسكال أن الإنسان هو «مستلهم جميع الأمور، ودودة الأرض الضعيفة، مستودع الحقيقة، ومجرى تصريف الشك والخطأ، مجدُ الكون ونفايته أحياناً».
إنها تناقضات لا يمكن للعقل البشري أن يوفِّق بينها، حيث عظمة الإنسان وبؤسه واضحان للغاية، وعبر سطور كتابه «الخواطر» نخلص إلى أنه في الإنسان «هناك مبدأ عظمة كبير، كما أن هناك مبدأ بؤس كبير أيضاً».
عقل مبدع
كانت سنوات باسكال الأخيرة درساً كبيراً ومهماً لكل إنسان صاحب روح خلاقة، ففي السنوات التي امتدت من 1659 وحتى 1663، أي موعد وفاته، أصبح باسكال رجلاً مسالماً، ولم يعد ينخرط في مخاضات الجدل، ولا حتى في مواقع أو مواضع الدفاع عن النفس والسعي إلى الدفاع عنها وتبرير مواقفها.
وفي هذه الفترة من حياة باسكال، يورد أحد كتاب سيرته قوله: «إذا كان الأطباء يقولون الحقيقة عن إمكانية شفائي، وسمح الله لي بالشفاء من هذا المرض، فأنا مصمم على ألا تكون لدي أي وظيفة أخرى أو اهتمام آخر لبقية حياتي سوى خدمة الفقراء».
وفي أغسطس من عام 1962، اشتد المرض على باسكال، حتى عجز عن الحركة تماماً، فطلب نقله إلى المستشفى، ولكن الأطباء أكدوا خطورة حالته واستحالة نقله، ولهذا ظل يعاني ليومين كاملين أمام العجز التام لأطبائه المعالجين، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة صباح يوم التاسع عشر من الشهر نفسه.
رحل باسكال وهو لم يكمل عقده الرابع، ولا يدري المرء، ما الذي كان يمكن أن يقدمه هذا العقل المبدع لو طال به الزمن بضعة عقود أخرى، ومع ذلك فقد ترك إرثاً مخلداً، روحياً وعلمياً، سيبقى علامة فارقة في الفكر الإنساني على مر التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©