الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

إدغار موران وروح الأخوة الإنسانية

إدغار موران وروح الأخوة الإنسانية
11 يناير 2024 01:16

إميل أمين

وسط الأزمات المتفاقمة لعالمنا المعاصر، وما بين أجواء بعض الحروب المشتعلة شرقاً وغرباً، والخوف من هواجس أي مواجهة نووية يمكن أن تحدق بالبشرية، قد يعنُّ للمرء أن يتساءل: هل كان أفلاطون على حق حين تطلع لعالم يحكمه الفلاسفة؟. في كل الأحوال، تبقى هناك حاجة ماسة هذه الأيام للعودة إلى عالم الفلاسفة والمفكرين والمبدعين، أصحاب النوايا الصالحة والطوايا الطيبة، على أمل استنقاذ واقعنا الإنساني من الاحتقان والتعصب، ومن الشوفينية وبعض النزعات القومية اليمينية المتطرفة، ما يهدد بعودة بعض الأمم والشعوب إلى طريق المواجهات الدوغمائية والإيديولوجية على حد سواء.
والآن على عتبات العام الجديد، وجّه إدغار موران الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي الذي تجاوز المئة بثلاثة أعوام، رسالة تهنئة للبشرية بحلول العام الجديد، يمكن النظر إليها من، وجه آخر، وكأنها إنذار للعالم كله من احتمال وقوع الأسوأ مما لم يأتِ بعد.. فما الذي يقوله هذا المفكر والفليلسوف الفرنسي الكبير في تهنئته؟

شفا هاوية
«شهد عامنا المنتهي كراهيات، ونرى العالم بأسره وكأنه على شفا هاوية، فهل يمكننا أن نخفف عن أنفسنا أوزارنا؟ أن نعالج البشر الذين يتألمون؟ إننا نعاني من هذيانات قصوى، فلنحاول تفادي الأسوأ. لنوحد بين الصداقة والمحبة والأخوة، عسى أن نأمل في أيام أفضل».
هذه هي البرقية التي وجهها موران للبشرية، وعلى قلة كلماتها فهي تحمل توصيفاً سديداً للعام المنصرم من جهة، حيث تفشّت الكراهيات في بعض مناطق العالم بالفعل، ونتج عنها عالم على شفا الهاوية، اقتصادياً وسياسياً، وعسكرياً وأمنياً، وقد تكون البقية قادمة أيضاً. ويتساءل الفيلسوف الفرنسي عن إمكانية بناء عالم جديد توحده المحبة والأخوة الإنسانية والصداقة، فهل لهذا العالم القائم على التعاون والتضامن مكان على الأرض، أم أنه مجرد حلم طوباوي قابع في عقول بعض الفلاسفة فحسب؟

سيرورة العولمة
ورسالة التهنئة الأخيرة هذه التي وجهها موران، أو بالأحرى إنذاره قبل حلول الساعة الحادية عشرة من عمر الإنسانية، يستلهم فيها ولاشك روح مؤلفه الأهم: «هل نسير إلى الهاوية؟»، الذي يسعى إلى وصف سيرورة العولمة التي تعتبر في تقديره من أسوأ ما جرى للعالم في أيامنا هذه! فقد اعتبر أن العولمة بصورتها منزوعة الإنسانية على هذا النحو، باتت تدفعنا في «سباق الهاوية»، ولهذا فإنه للمرة الأولى في التاريخ يمكننا أن نتصور المصير المقلق المشترك.
ومن هذه الزاوية يمكن اعتبار موران واحداً من أفضل، إن لم يكن بالفعل أفضل من صور أوجه التعقيد في السيرورات العولمية، وقد أقر أيضاً بالجوانب الإيجابية فيها، مثلما يكشف عن خصائصها السلبية، وبين الأمرين يبيّن للقارئ الاحتمالات الكارثية، من وجهة نظره الخاصة.

النزاعات والصراعات
ولعل من أبلغ العبارات التي يذكّرنا بها موران في هذه الآونة الصعبة أن «غير المحتمل يحدث عادة»، ما يعني أن فكرة الهاوية يمكن أن تكون بالفعل قريبة. وينوّه كذلك إلى أننا «حيثما نعتقد بوجود المخاطر فهنالك أيضاً ما يمكن أن ينقذ ويخلص»، بتعبير الفيلسوف وعالم وظائف الأعضاء الإنجليزي «جون سكوت هولدين»، بمعنى أن المخاطر التي صارت تزداد وضوحاً باتت تسعف كذلك بما يساعد على استيعابها بأوجه متعددة، وهو وعي ربما كان باعثاً على الأعمال المخلصة منها. ويظهر لنا موران هنا من خلال أعماله وكأنه طبيب، لا يكتفي بتشخيص المرض، وإنما يسعى أيضاً لإيجاد الدواء، درءاً للمخاطر في الحال والاستقبال معاً.
ولاشك أن مما يلفت في شخصية موران أنه ليس فيلسوفاً منعزلاً في برج عاجي عالٍ، يراقب منه أحوال الإنسان ومآلات الأزمان، ولكنه مفكر وثيق الصلة بما يحدث في عالمنا المعاصر، ولاسيما في اهتمامه بموضوع النزاعات المولدة لصراعات يمكن أن تتسع رقعتها.

الوئام لا الخصام
ولم يكن موران بعيداً في نهاية العام المنصرم عما يحدث في أكثر من صراع دولي جارٍ الآن، معتبراً أنها أنواع الأزمات التي تواجهها حضارتنا، وعليه فإنه، بحسب تعبيره، لا يتوجب علينا نسيان القضايا العادلة، حيث القلق الإنساني يشيع بسبب تحديات وتداعيات هذه الصراعات، وخاصة في أبعادها الإنسانية.
وفي حوار أخير لموران منتصف شهر نوفمبر الماضي مع الناقد الأدبي الفرنسي الشهير أوغسطين ترابينارد، تناول واقع الإنسان اليوم لاسيما في ظل الحروب الدائرة من حولنا.
وذهب هذا المفكر، ذو المئة وثلاثة أعوام، إلى كارثية وجود بعض من يشجعون الحروب، ما يعني احتمال حلول أوقات تنجرف فيها الإنسانية مع تيار الخصام لا الوئام تجاه الآخر، وهنا يطلب منا أن نختار جانباً ونتخذ موقفاً إيجابياً يعلي جانب الوئام.

دروس قرن
والسؤال هنا: ما هو موقف موران شخصياً؟ جوابه: «أنا أتخذ موقفاً من قلق الإنسان، لاسيما في عالم اليوم الغامض والمعقد، وشعور الكراهية الذي ينتشر أكثر في مناطق عديدة من هذا العالم».
وهنا يستعيد من مؤلفه الجميل «دروس قرن من الحياة»، دعوته لعدم الاستسلام للكراهية، مشخصاً أبعاد الأزمة المعاصرة بوجود حالة من عدم اليقين منتشرة على سطح الكوكب، حيث بات مصير الإنسان وكأنه أمر منسى تماماً.. فهل يرى موران بعيني الفلسوف ما لا نراه نحن من حولنا بالأعين الاعتيادية؟
قد يكون الأمر على هذا النحو بالفعل، ويفسر ذلك بقوله: «لم تتعرض الإنسانية قط لمثل هذا القدر من المخاطر، لأنه إذا انتشرت الحروب على نطاق واسع، واستخدمت الأسلحة النووية، فإننا لا نعرف إلى أين نتجه، إلى أي تراجع، أو أي انحطاط». فمن العالم الأنتروبي، أي المتحول، كما يحدث داخل الذرة، يأخذنا موران إلى مدارات الفوضى أو «الكاوس»، تلك التي تكاد تلف عالمنا وتعميه عن رؤية «الأنوار التي لا تعمي»، بحسب تعبير صديقه الفيلسوف اليساري الفرنسي الشهير «ريجيس دوبريه».

التعمير لا التدمير
وهكذا يدعو موران مع بداية العام الجديد، كل إنسان في مختلف أنحاء المعمورة، إلى أن يكون فاعلاً، ومؤثراً وليس متأثراً فقط، في مواجهة حالة الفوضى العالمية التي تكاد تضرب في مختلف جوانب الأرض من أدناها إلى أقصاها.
والحال أن مخاوف موران من الفوضى تتمثل في أنها تحمل في طياتها قدراً هائلاً من القدرة على التدمير لا التعمير، وفي هذا نجده يستشهد بمقولة الإغريق القدماء: «أن الكون أو العالم هو ابن الفوضى»، أي أن عالمنا هذا منذ البداية هو ثمر تلاقح ومن ثم تناطح بين النظام والفوضى معاً.
ولموران مواقف خاصة من الحرب، وهو الذي خاض الحرب العالمية الثانية، حيث يدعو إلى مفهوم «حرب من دون كراهية»، وهو تعبير يبدو في ظاهره متناقضاً، فالحروب تنشأ على ضفاف الكراهية بطبيعة الحال، ولكنه يفسر ذلك من خلال تجربته الحياتية التي كره فيها النازية وإيديولوجيتها، ولكنه لم يستسلم لكراهية كل أبناء الشعب الألماني.
لا يمكننا أن نناقش «الأيقونات الفكرية» التي خلفها موران طوال رحلته المئوية، من دون التوقف بعناية فائقة أمام كتاب «الأرض، والوطن»، الذي أصدره مع «آن بريجيت كيرن». إذ بين طيات هذا العمل الكبير، ما يتسق وإنذاره الأخير مع بداية العام الجديد، حيث يتطلع إلى تحقيق أخوة الإنسانية وبناء الحضارة على الأرض، بنبذ الكراهية والحروب، وعبر التغيير الجذري من خلال مبدأين هما بقاء الإنسانية ومتابعة السعي لتحقيق الأنسنة.

عالم أكثر إنسانية
ولكن، أي عقبات، في فكر موران، قد تقود عالمنا إلى التقهقر والرجوع حضارياً إلى الوراء؟ يذهب موران مع فلاسفة آخرين، وإن قلُّوا، إلى أن التخلف الفكري والنفسي والعاطفي والإنساني السائد هو العقبة الأساسية في وجه تأسيس عالم أكثر إنسانية، وعليه فإنه لابد لنا من إعادة اكتشاف العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، سواء كانت علاقة داخلية أم خارجية.
وفي هذا السياق لا يمكن أن ننسى الإشارة إلى أن موران، اهتم، في صلب أعماله وكتاباته، بنقد قيم المجتمع الاستهلاكي الرأسمالي الحديث ونظرية النمو، ويذهب في هذا السياق إلى أن هدف التنمية الذي روجت له بعض الحكومات والشركات صار يركز على البيانات الإحصائية وتحقيق الثراء المادي على حساب القيم الاجتماعية وجودة الحياة، وهذا كفيل بتوليد كراهيات اجتماعية طبقية قد تفقد العالم سلامه في الباطن والظاهر معاً.

تصالح وتسامح
في إنذاره للعام الجديد، تبدو قناعات إدغار موران السابقة متجددة على نحو واضح، ذلك أنه فيما يستشرف المستقبل العالمي المليء بالمفاجآت والشكوك، نراه يدعو إلى غرس ثقافة عدم الانجرار نحو الكراهية بدءاً من المدرسة. وعن ذلك يقول موران: «يمكننا أن نكون في صراع أفكار، وصراع أشخاص، وصراع أمم، ولكن أعتقد أن الكراهية هي أسوأ الأمور، ذلك لأنها تؤدي بصاحبها إلى احتقار الآخرين وإنكار إنسانيتهم، وإلى أفعال مشينة، للأسف، تؤجج جميع الحروب».
ويعطي موران من تجربته الشخصية التي قدمها لقرائه ومحبيه عبر سيرته الذاتية التي صدرت في مؤلفه الأخير «درس قرن من الحياة»، مثالاً على تصالحه وتسامحه مع الذات ومع الآخرين.
وقد تعرض موران نفسه لفترة طويلة جداً لموجات من التهميش، وعلى رغم ما عرفه من سجالات حول اهتماماته الفلسفية، وعدم الاعتراف الأكاديمي الذي طال منجزه لعقود داخل فرنسا، كتب موران ذات مرة: «لم أحارب قط من حاربوني»، فقد عاش مسالماً متبعاً منهجه الإنساني فكراً وحياة.
ويبقى السؤال أخيراً: ترى هل سيصل إنذار موران الأخير للبشرية قبل أن تقف على عتبات الهاوية؟!

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©