في الاجتماع الأول للمجلس العلمي الأعلى لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، ألقى الشيخ عبد الله بن بيه رئيس المجلس كلمةً جامعةً في رؤيته لمهام الجامعة الجديدة ووظائفها وطموحاتها. فقد أراد المؤسس الشيخ محمد بن زايد أن تكون الجامعة جسر عبورٍ سلس إلى العالم الجديد، لا يشعر الباحث عن المعرفة عبره بغربة الفراق، ووحشة الخروج من حقلٍ معرفي لآخر.
ورأى العلاّمة بن بيه في كلمته الافتتاحية أنه من أجل إحقاق رؤية مؤسس الجامعة، سالفة الذكر، ينبغي القيام بوساطاتٍ ست، الأولى: الوساطة بين التراث والمعاصرة. فمنذ ما يقارب القرن أو يزيد تقوم المقاربات على التمانع والإقصاء المتبادل والقطيعة بل القطائع. ولا مخرج من هذا التقابل إلا بالمواءمة والملاءمة واستكشاف فضاءات الالتقاء، وتوسيع قنوات التواصل. يقول الفيلسوف الألماني هايدغر: إن الاعتقاد بأنّ التراث وراءنا هو اعتقاد خاطئ، إذ هو دائماً أمامنا، ولا يمكن تجاوزه إلا بفهمه وتملّكه تملكاً واعياً مستوعباً. فالانفتاح الواعي على العصر بهذه العملية الاستيعابية والتجاوزية يتم بدون التنكر للذات التاريخية العميقة. ونحن في التبادل والتواصل مع الحاضر الثقافي والحضاري، إنما نتواصل مع الآخر بكل موروثنا وموروثه فهماً وتفهُّماً لاستشراف التعارف الذي يصنع الجديد والمتقدم ووحدة الإنسانية. 
أما الوساطة الثانية فتجري بين الفلسفة والدين. وهي إشكاليةٌ قديمةٌ تقتضي معالجتها بالخروج من الخصومات التاريخية، وهو الأمر الذي حاوله ابن رشد في رسالته الشهيرة: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. فالفلسفة سؤال وجودي، والدين اقتضاء وتخيير، وهذه مجالاتٌ إنسانيةٌ متداخلةٌ. والوساطة المقصودة لا ترمي إلى الانتقاء أو التلفيق، بل تريد أن يصبح التداخل الموجود بالفعل شراكةً بنّاءةً ومفتوحة كما تتشارك القوى الإنسانية. والبناء والمتابعة هنا يكونان استناداً إلى أعمال فلسفية ولاهوتية كبيرة وكثيرة في الاتجاه نفسه. 
وتأتي الوساطة الثالثة بين العلم والدين؛ فخلال القرون الأخيرة كانت هناك محاولات كثيرة للاستغناء بالعلم عن الدين. ولكلٍ منهما مجاله أو مجالاته. فالعلم جاء تقدمه من عمله في مجال الظواهر وعالم الشهادة. في حين يعمل الدين في مجال الماهيات وجواهر الأمور والمعاني البعيدة. العلم مجاله العلل الثانوية، والدين مجاله العلل الأولى للأشياء، كما يقول كلود برنار. ومع ذلك فثمة لقاءاتٌ كثيرةٌ عندما يلتقيان في الحياة الإنسانية. وهنا أيضاً نستند في التقدم على سبيل الوساطة إلى جهود كثيرة جرت لتجاوز الخصومة، مع أن أرباب العلوم البحتة والتطبيقية ليسوا متواضعين في كثير من الأحيان. 
وفي مجال النوع الرابع من أنواع الوساطة يأتي التكامُل المعرفي. فالعلاّمة بن بيه يتحدث عن جسورٍ رابطةٍ بين العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية. لذا يكون على مناهج الجامعة أن تتجاوز الجزر المعرفية لتصل بينها في مهمات صناعة الإنسان. هناك من يعتبر العلوم الإنسانية في مجال الدراسات الإسلامية علوماً مساعدةً، مثل التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة. ولأنّ العلوم الإنسانية جميعها مناطها الإنسان، فإنها أكثر من ذلك، لأنها مثل العلوم الإسلامية وإنْ بمناهج ومعارف مختلفة تتناول الإنسان بمعناه الشامل. وبذلك فاللقاء حتمي والإثراء المتبادَل واقع متحقق. 
أما الوساطة الخامسة فبين ما صار يُعرف بالقيم العلمانية والأُخرى الدينية. هناك ضرورةٌ اليوم، يشاركنا في إدراكها فلاسفة كبار مثل بول ريكور وتشارلز تايلور، لتأويليات مشتركة بين حرية التدين وحرية التعبير، وبين العدالة والرحمة، وبين العدالة والمحبة.
وفي الوساطة السادسة تظهر المواءمة بين الخطاب الديني والواقع. يتحدث هابرماس عن اللقاء أو التشارك في المجال التداوُلي أو العام، وقِدْماً تحدث علماء الأصول عن خطاب الوضع. وكلا الأمرين يجريان في الواقع متعدد الجوانب. والواقعي هو الحقيقي كما أن الحقيقي هو الواقعي، كما يقول هيغل. 
إنّ جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، بوصفها جسر عبور إلى العالم الجديد، تهدف إلى الارتقاء بفعالية الإنسان. الإنسان الذي يقول الشيخ محمد بن زايد إنه غاية كل خطط دولة الإمارات ومحور جهودها التنموية.

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية