منذ بداية الجائحة، ظهر الكلام عن «التعايش»، أي اللحظة التي يصبح فيها مرض كوفيد-19 جزءاً من الحياة اليومية وليس موجة هائلة من الإصابات والوفيات تكل عن استيعابها المستشفيات وتؤدي إلى عمليات إغلاق طاحنة للمجتمع. وتلك المرحلة سيبدو فيها كوفيد-19 أكثر شبهاً بالإنفلونزا وتتوافر فيها حملات اللقاحات ويجري التركيز على الرعاية الأولية. أي ليس التخلص من الفيروس، بل التحكم فيه.

إنها لحظة توشك أن تحل بجانب كبير من الاتحاد الأوروبي بعد جولات قاتلة متعددة مع كوفيد-19 حصدت أرواح قرابة مليون شخص في أوروبا وسددت ضربة لكبرياء القارة في نظامها المتمتع بتمويل جيد للصحة العامة. فقد عادت مدن مثل باريس ولندن تعج مرة أخرى بالعمال ورواد المطاعم وأماكن الترفيه. والكمامات أصبحت تتدلى في المعاصم وليست ملتصقة بالوجوه.

والملاهي الليلية مفتوحة الآن، وإن يكن وفق تدقيق طبي جديد. والسياسيون في المملكة المتحدة وفرنسا يتحدثون أكثر عن المسؤولية الفردية وقل حديثهم عن القواعد من الإدارة إلى الأفراد. ويتضح أيضاً أن التعايش مع كوفيد-19 سيظل هدفاً عزيز المنال دون دعم متجدد لإدارة الجائحة وتركيز أكثر على توسيع نطاق توفير اللقاحات وإرشادات أوضح للناس.

وإعادة فتح الاقتصاديات الكبيرة في أوروبا بدأت تواجه كبوة مع عودة تزايد الإصابة. ففي إسبانيا وفرنسا زادت حالات الاستقبال في المستشفيات، والقيود تتزايد الآن في لشبونة وأمستردام. وسلالة دلتا، الأكثر قدرة على العدوى، تنتشر في القارة لتكشف فجوات في حملة اللقاحات التي واكبت تسارع إيقاع الحملة الأميركية، لكن مازال أمامها شوط كبير لتقطعه. ولسرعة انتشار السلالة تأثير. واللقاحات المتوافرة توفر حماية، ومن الواضح أنها تمثل عاملاً حاسماً. فقد حصل نحو 53% من سكان الاتحاد الأوروبي على جرعة واحدة على الأقل، وهو ما قد يشرح سبب استمرار تراجع عدد وفيات كوفيد.

لكن التغطية تتراجع بشدة للأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 50 عاماً. وفي إسبانيا وفرنسا لم يحصل  على تطعيمات من الفئة العمرية بين 25 و49 عاماً إلا 10% منهم في مقابل حصول 40% من الفئة بين 50 و59 عاماً . ونسبة الحاصلين على التطعيمات في الفئة العمرية التي تجاوزت أعمارها 70 عاماً في فرنسا بلغت 70% في مقابل حصول جميع المنضوين في هذه الشريحة العمرية في إسبانيا على تطعيمات، أي بنسبة  100%. ويتعين تحسين الحصول على اللقاح في أوروبا التي تتلهف على التعايش مع كوفيد. وصرح إلين فيشر، المسؤول البارز عن اللقاحات في فرنسا لصحيفة «لوموند» في الأيام القليلة الماضية أن سرعة انتشار سلالة دلتا سيتطلب تحصين 90% من الراشدين في فرنسا.

وبتطبيق هذا على كل الاتحاد الأوروبي الذي من المقرر أن يتلقى فيه 70% من البالغين جرعة واحدة على الأقل من اللقاح بنهاية الشهر الجاري، نجد أن لدينا 150 مليون راشد آخر في حاجة إلى تلقي اللقاحات، أي أكثر من ضِعف سكان فرنسا. ومن ثم، يتضح أن الخيارات الأخلاقية في هذه المرحلة من الجائحة أكثر صعوبة مما كان متوقعاً. فقد رفعت المملكة المتحدة كل قيود الجائحة وتمتع الأفراد بمساحة أكبر لاتخاذ قراراتهم، ووصفت هذا بأنه «يوم الحرية». لكن هذه «الحرية» سلكت نهجاً مختلفاً في فرنسا. فقد أعلن الرئيس الفرنسي في الأيام القليلة الماضية، إعطاء لقاحات إلزامية للعاملين في مجال الصحة ومن المحتمل أن يشمل الأمر جميع البالغين إذا لم تتصاعد وتيرة تلقي اللقاحات. وهذا النهج يجب أن يتوسع فيما يتجاوز حدود أوروبا. فالعالم الغني يتحدث عن جرعات داعمة، أي جرعات ثالثة، وانتشار أكثر طموحاً للقاح. لكن تحقيق هدف التعايش مع كوفيد يتطلب معالجة التفاوت الكبير مع الدول منخفضة الدخول التي لم يحصل إلا 1% فقط من سكانها على جرعة واحدة على الأقل. وطرح التعامل مع كوفيد باعتباره شأناً محلياً خالصاً يتجاهل حقيقة أن سلالات كوفيد تنتعش في مناطق ينخفض فيها توزيع اللقاحات.

وقيود السفر التي تقيد الإصابات غير محكمة التأثير وتأتي دائماً في وقت غير ملائم. فسلالة «دلتا» اكتُشفت أولاً في الهند وتم اكتشاف سلالة «بيتا» في جنوب أفريقيا. وأوروبا تعتزم أن تصبح أكبر منتج للقاحات كوفيد-19 هذا العام، ولذا يتعين عليها تحسين الإنتاج الصناعي للقاحات. ويتعين على القارة أيضاً الإنصات إلى دعوة جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، إلى بذل المزيد من الجهد في تبرعات اللقاحات.

ويتوقع أندريا تايلور، من جامعة دوك الأميركية، أنه بغير ذلك لن يحصل العالم كله على لقاحات قبل عام 2023. وستحل تغيرات أخرى في نهاية المطاف. فقد لا تحتاج الأنظمة الصحية دوماً إلى عدد كبير من أسرّة المستشفيات، بل ستحتاج بالتأكيد إلى طاقم من المتخصصين الصحيين أفصل أجوراً ورعاية أولية أفضل موارد. والدول التي تعتمد على السياحة، مثل إسبانيا وإيطاليا، قد يتعين عليها تغيير مسارها نظراً لاحتمال تدفق ضعيف للسياحة على مدار عامين قادمين.

وستكون هناك حاجة لتمويل المزيد من استثمارات ما بعد الجائحة لتحقيق التعافي. لكن في الوقت الحالي، يجب النظر إلى التعايش مع كوفيد باعتباره هدفاً في نهاية ماراثون، وليس سباق جري. ورفع القيود يتعين أن يكون استجابة محسوبة بدقة مبنية على بيانات ومصحوبة بتعزيز عملية إعطاء اللقاحات. وسيأتي يوم الحرية لكن ليس الآن.

*صحفي متخصص في شؤون الاتحاد الأوروبي وفرنسا .

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوسات وبلومبيرج نيوز سيرفس»