الموروث العربي غزير وزاخر بالقصص والروايات وغني بالحكايات والمواقف المختلفة، ذات الدلالة على نوعية وطباع وخصائص الشعوب والمجتمعات، لاسيما سير الأفراد الذين عانوا الأمرين في ظروف صعبة وبيئة شحيحة وقليلة الموارد بحكم طبيعتها الصحراوية القاحلة مترامية الأطراف في الجزيرة العربية وجوارها، والتي لم تكن جاذبة للاستيطان بسبب قلة مواردها قبل اكتشاف النفط.

كان هناك رجال ضحوا بأنفسهم وأموالهم، دفاعاً عن دينهم وتاريخهم وكياناتهم، قبل أن تتوحد الأوطان وتصبح دولاً ومدناً تنموية.. فبذلوا جهوداً جبارة وقدّموا تضحيات جسيمة، دفاعاً عن أرضهم وعرضهم وحدودهم، وذلك على مر العصور والأحداث، تدفعهم العزة والشهامة والغيرة على أهلهم، ولكي تكون لمجتمعهم مكانة وشأن كبيران بين مجتمعات العالم.

وقد خلّد بعضُهم ذكرَه في صحائف التاريخ ومجالس العرب، فبرزت بذلك أسماء وعناوين في سفر التاريخ الخالد وفي سجل البطولة الفذة، وكُتبت عنهم الكثير من الأشعار، في المدح والإشادة والرثاء، وأصبحت أسماؤهم شاخصة في المخطوطات والوثائق والكتب، تذكر صبرهم وجلَدهم وسيرهم الطيبة التي ما فتئت تتناقلها الأجيال بعد الأجيال لتكون قدوةً ونبراساً يحتذى به.

لكن في بعض مجتمعاتنا العربية اليوم أصبح الناس يميلون إلى التنظير فقط واجترار الماضي فحسب، دون التفكير في حلول لمشكلات الحاضر ودون اهتمام باستشراف المستقبل وآفاقه، للعبور من الحاضر والنجاة من مخاطر القادم، ولاجتراح دور مؤثر في صنع التقدم وفي بناء الحضارة وتنمية المجتمعات وتطورها.. وكأنها تنتظر المجهول أو توكل مسؤولية ذلك لغيرها.

والبعض منهم يعتبر هذا إنجازاً أو أقصى طموح ممكن! الكسل والخمول آفة المجتمعات العربية في وقتنا الحالي، حيث أصبح البعض يجد له مبرراً جاهزاً للإمعان في النوم والسهر والجلوس وكثرة الأكل، ألا وهو جائحة كورونا التي غزت العالم واستنزفت اقتصاده وأضعفته، بما في ذلك الدول الصناعية المتقدمة، ولم تترك فرصة عمل أو مصدراً للمال إلا وأتت عليه. وبينما يبدع الإنسان في تلك الدول ويتفنن ويسهب في إنجاز عمله، فإن البعض الآخر في المجتمعات العربية ينظّر ويشرح كيف واجه الأجداد الأبطال كثيراً من الأمراض والأوبئة والحروب والغزوات والاحتلالات بقوة وشجاعة واستبسال، في ظروف صعبة، وبأعجوبة وقوة واقتدار.

لقد فعلوا ذلك وهم على صهوات خيولهم وظهور جمالهم في الصحاري والبراري، وبأسلحة بدائية.. واستطاعوا أن يصمدوا ويتجاوزوا المحن والصعاب. لكن حفيدهم المتحدث الآن، وهو جالس تحت التكييف، يكتفي بتقليب شاشة جهازه المستورد الحديث، مرسلا الشتائم واللعنات بحق الدول المتقدمة التي صنعت الأجهزة الكهربائية والإلكترونية والتقنيات الدقيقة.. وحرمته من شرف المنازلة الكبرى والقتال في ساحات الوغى بكل استبسال!

يسترسل في الشتائم بعد أن انقض على وجبة دسمة من أحد المطاعم الأجنبية، طلبها من خدمات التوصيل، وسددها ببطاقة الائتمان الدولية (الفيزا أو الماستر كارت)، وأرسل الموقع (اللوكيشن) عن طريق «قوقل ماب».. وقد فعل كل ذلك مستذكراً صورة جده الذي كان يواجه الصعاب بصلابة لا تلين، لكنه لا يملك صلابته ولا يملك العديد من المؤهلات التي تتطلبها المرحلة الحالية.

بعض الأشخاص أصبحوا عبئاً على مجتمعاتهم وبلدانهم، يأكلون أكثر مما ينتجون، يتحدثون أكثر مما يفكرون، يأخذون أكثر مما يعطون، يسبون ويشتمون أكثر ما يسعون للخير والتوادّ. ما لها بعض المجتمعات أصبحت غير مبالية وغير منتجة وغير عاملة.. وباتت تجيد اجترار الماضي ولا يهمها صنع الحاضر أو اكتشاف المستقبل؟! إنها مجتمعات تحتاج إلى إعادة بناء بغية الاستفادة من مكنوناتها المتنوعة ومؤهلاتها الكبيرة، وتعظيم الاستفادة منها في أغراض أخرى صالحة للنهوض والتطور ومنافسة العالم!

*كاتب سعودي