توفي الجنرال كولن باول يوم الثامن عشر من أكتوبر الجاري عن أربعة وثمانين عاماً، وذلك إثر صراع مع فيروس «كوفيد-19» والسرطان ومرض باركينسون. كان باول شخصيةً قويةً وملهمةً في المشهد السياسي الأميركي، فهو جندي ورجل دولة وإنسان راقٍ. وكان أولَ أميركي من أصل أفريقي يتولى منصب قائد هيئة الأركان المشتركة، ومنصب مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، وأول وزير خارجية أسود. 
نشأ باول في حي برونكس بمدينة نيويورك، وكان ابناً لمهاجرَين من جاميكا كان يشدِّدان على أهمية العمل الجاد والصدق. ووجد باول ضالَّته في الجيش الأميركي الذي كان في عقد الستينيات واحداً من أقل المؤسسات عنصريةً في الولايات المتحدة. وشارك في حرب فيتنام، ثم سرعان ما تدرَّج في الرتب العسكرية. 
وأصبح باول وجهاً وطنياً خلال حرب الخليج الأولى في عام 1991 التي انتهت بطرد الجيش العراقي من الكويت بنجاح وإنهاء احتلاله لها. وشكّلت حرب الخليج نجاحاً بيِّناً؛ إذ لم تتعرض القوة المتحالفة الضخمة التي حُشدت لمواجهة صدام حسين سوى لخسائر قليلة خلال الحملة العسكرية القصيرة. ورفض الحلفاءُ الدعوة لغزو العراق واحتلاله، وعلى الرغم من أن البعض احتج ضد هذا القرار، إلا أنه اعتُبر حصيفاً في ذلك الوقت.
لكن بعد اثني عشر عاماً، عندما كان كولن باول وزيراً للخارجية، غزت الولاياتُ المتحدةُ العراقَ. ومثّل دور باول في تقديم مسوغات للغزو خطأً فادحاً ندِم عليه ندماً لازمَه لبقية حياته. ومن المهم التذكير هنا بالأسباب التي جعلت هذه الفترة من حياته فترةً مؤلمة جداً. فداخل الدائرة الداخلية لمستشاري الرئيس جورج دبليو بوش، كان يُنظر إلى باول باعتباره الصوت الحذِر الذي حاجج ضد خوض حرب مع العراق عقب هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية. وكان يختلف مع المواقف المتشددة لنائب الرئيس ديك تشيني ومستشارة الأمن القومي كندوليزا رايس ومجموعة من المحافظين الجدد داخل الإدارة وخارجها ممن كانوا يعتقدون أن إسقاط صدام حسين من شأنه أن يبشّر بفجر عهد جديد مؤيد للديمقراطية وموال للغرب في الشرق الأوسط. وكانت حجة «الصقور» هي أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، وأن هذا يشكّل تهديداً وجودياً للعالم. 
غير أن قلةً قليلةً من حلفاء أميركا كانوا يصدقون أدلتها. ونظراً لأن باول كان المسؤول الأميركي الذي كانت كان يحظى بالمصداقية عند الحلفاء، فقد كُلِّف بمهمة إقناعهم وتقديم أسباب ومسوغات للحرب في عرض دراماتيكي في مجلس الأمن الدولي في 5 فبراير 2003. واعتمد باول على مواد أعدتها وكالة الاستخبارات المركزية، الـ«سي آبي إيه»، ومكتب تشيني، مواد اتضح لاحقاً أنها كان مليئة بالمغالطات والمعلومات الاستخباراتية المضللة. في ذلك الوقت أقنع خطابُ باول العديد من المترددين بأن المعلومات الاستخباراتية دامغة. وبسبب سمعة باول، اعتُبرت تلك المسوغات التي قدّمها ذات مصداقية. غير أن باول سيعترف لاحقاً بعد أن مغادرته إدارة بوش بأن المعلومات الاستخباراتية التي قدّمت له كانت مَعيبةً، إذ لم يُعثر على أي أسلحة دمار شامل في العراق، ليظل اسمه بذلك مرتبطاً بحرب كارثية. 
غير أن باول أتيحت له فرصة أخرى للعب دور حاسم في المشهد السياسي الأميركي؛ فخلال حملة انتخابات 2008 الرئاسية بين «الجمهوري» جون ماكين والسيناتور «الديمقراطي» الجديد باراك أوباما الذي ينحدر من أصول أفريقية، سعى كِلا المرشحين للحصول على دعم باول؛ ماكين لأنهما كانا صديقين ومحاربين عسكريين لسنوات عديدة، وأوباما لأن باول كان «الجمهوري» الذي يحظى بأكبر قدر من المصداقية عند كثير من الناخبين «الديمقراطيين». وكان يُعتقد أن باول سيظل ملتزماً بالحياد، لكن على بعد أسبوعين فقط من تاريخ الانتخابات، قدّم دعمه لأوباما وأثّر بشكل واضح على كثير من الناخبين الذين كانوا لم يحسموا أمرهم بعد بشأن أي من المرشحين سيصوّتون له. لقد كانت لحظةً تاريخيةً ودراماتيكيةً في الحياة السياسة الأميركي، لحظةً أشّرت إلى قوة الرجل القادم من برونكس وتأثيره. 
وخلال سنواته الأخيرة، أضحى كولن باول أيقونةً أميركيةً. لقد كان جمهورياً وسطياً يضع مصلحة البلد فوق مصلحة الحزب. إذ صوّت لبايدن في 2020 وكان صريحاً بشأن استيائه من دونالد ترامب والحزب الجمهوري الذي خدمه بإخلاص وتفان كبيرين. وكما تشير إلى ذلك المقالات الكثيرة التي كتبت عنه بمناسبة وفاته، فإنه مثّل الأحسن في أميركا في وقت عزّت فيه النماذج القوية والصادقة. 

مدير البرامج بمركز «ناشيونل إنترست» في واشنطن