انشغل الفلاسفة والمفكرون منذ القدم وحتى وقتنا الراهن بمسألة البُعد الإنساني للسياسة، وقدموا طروحاتٍ مختلفة عنها.

فمنهم مَن نزع أي بعدٍ إنساني عن سياسات الدول، على أساس أنّ المصلحة الوطنية هي محرك هذه السياسات، ومنهم من أكّد على أهمية أخذ الاعتبارات والقيم الإنسانية عند تخطيط هذه السياسات وتنفيذها. ولا يتسع المقام هنا للولوج في تفاصيل هذه الطروحات، ولكن ما أريد الإسهام به في هذا النقاش هو طرح مفهوم جديد عن «الدولة الإنسانية»، وهي تلك التي تُضمِّن نظامها العقيدي قيماً إنسانية عامة غير محملة بإيحاءات إيديولوجية، وتصيغ توجهاتها الخارجية في إطار الدائرة الإنسانية وتولي القضايا الإنسانية الكبرى اهتماماً مكثفاً، وتتصور لنفسها دوراً إنسانياً في العالم. وأعتقد أنّ هذا المفهوم يجب أن يأخذ مكانه في الكتابات السياسية للإشارة إلى مجموعة محددة من الدول، على رأسها الإمارات العربية المتحدة.

بادئ ذي بدء، تتضمن وثيقة مبادئ الخمسين، الصادرة في 5 سبتمبر المنصرم، وهي المرجع لجميع مؤسسات الدولة خلال الخمسين عاماً المقبلة، تأصيلاً لمنظومة القيم الإنسانية في دولة الإمارات، وهي «الانفتاح والتسامح، وحفظ الحقوق وترسيخ دولة العدالة، وحفظ الكرامة البشرية، واحترام الثقافات، وترسيخ الأخوّة الإنسانية، واحترام الهوية الوطنية» والتعايش السلمي.

والواقع أنّ دولة الإمارات تُقدم نموذجاً في التنوع الثقافي والعرقي الذي يعترف بوجود ثقافات متنوعة ومختلفة في المجتمع، تجمعها الرغبة في العيش المشترك والاحترام المتبادل، وبأنها مركب مهم وجزء لا يتجزأ من المشهد الثقافي، ولا يميز بين البشر على أساس خلفياتهم الثقافية، ويحتفي بالتعددية الثقافية، ويسعى إلى استثمارها في عملية التنمية.

وهذا النموذج الإماراتي ذو أهمية استثنائية وقيمة نوعية عالمية في حسم الجدل السائد عن العلاقة بين الحضارات والثقافات، ويدحض احتمالات الصراع بين البشر أو الدول بسبب التضاد أو التنافر الحضاري والثقافي. وفي هذا الخصوص، يُروى أنّ المغفور له الشيخ زايد بن سلطان – طيب الله ثراه - كان دائماً يطلب من مصوره «نور علي» أن يذهب ليصور أجواء الطبيعة مع غروب الشمس.

وقد تبين لاحقاً، كما روت ابنة المصور، أنّ الشيخ زايد كان يقصد ألا يُحرج مصوره «إسماعيلي المذهب» وقت إقامة صلاة المغرب. وقد وصف صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، في مقابلة صحفية عام 2006، دعاوى صدام الحضارات، ولاسيما بين الحضارتين الإسلامية والغربية، بالطروحات بالمتشائمة، وأعرب عن اقتناعه بأنّ العلاقة بين الحضارات ينبغي أن تكون علاقة حوار وتواصل، وتكامل وتفاعل، وشدّد على حاجة العالم «إلى بناء تحالف للتفاهم والسلام من أجل اجتثاث جذور العنف والكراهية، وإفشاء ثقافة التسامح والاعتراف بالآخر واحترام قيمه الدينية وخصائصه الثقافية». ولعل دور صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، في تصدير قيم الدولة الإنسانية للخارج يستحق التسجيل هنا.

وقد اتخذ هذا الدور عدة صور، منها مساعدة الدول النامية والفقيرة في مواجهة تداعيات جائحة كوفيد-19، والسعي لتحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة، والانطلاق إلى العالمية برعاية توقيع على وثيقة الإخوة الإنسانية عام 2019. وفي هذه المناسبة، عبر سموه عن القيم الإنسانية التي يؤمن بها، بقوله: «إنّ الكون يتسع للجميع، والتنوع مصدر للثراء وليس سبباً للصراع أو الاقتتال. لقد خلقنا الله متنوعين، لكي نكمل بعضنا بعضاً ونتعارف ونتعاون من أجل الخير والسلام والنماء لنا جميعاً».

إلى ذلك، يُعد البعد الإنساني توجهاً أصيلاً للسياسة الخارجية الإماراتية، فـ«الدعوة للسلم والسلام والمفاوضات والحوار لحل الخلافات كافة» هو المبدأ العاشر من مبادئ الخمسين. وفي هذا الخصوص، يؤكد سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي، في مقاله بصحيفة الاتحاد، أنه منذُ تأسيس دولة الإمارات، «ومواطَنتُنا في العالم والتزامنا النَشط بمسؤوليتنا تجاه قضايا الإنسانيةِ الكبرى تكتسِبُ احتراماً وإقراراً دولياً».

ومن أهم هذه القضايا تعليم الأطفال حول العالم، تعزيز المساواةِ بين الجنسين، وإرساء قيم التسامح والتعايش، ومكافحة التطرّف والإرهاب وتغيّر المُناخ، والإغاثة الإنسانية والصحة العالمية، وتسخير الابتكار في خدمة السلام. فضلاً على ذلك، شكل الدور الإنساني لدولة الإمارات أحد أهم العوامل التي عززت صورتها الإيجابية في العالم، وأحد أهم عناصر قوتها الناعمة. ويستند الدور الإنساني لدولة الإمارات إلى مبادئ إنسانية، ولاسيما التضامن الإنساني والتعددية الثقافية، ومقومات إسلامية تُشدد على التكافل الإنساني والتضامن الإسلامي، وقيمٍ قبلية أصيلة وخاصة الكرم والإيثار وعدم التخلي عن الإخوة والأصدقاء وقت الشدة والتكاتف والشهامة.

ومنذ تأسيسها عام 1971، تحولت دولة الإمارات إلى إحدى أبرز الدول المانحة في العالم، التي تقدم المساعدات الخارجية المختلفة للشعوب التي تعاني من الكوارث الطبيعية والأزمات والنزاعات المسلحة والفقر حول العالم. وتبين مبادئ الخمسين أنّ «المساعدات الإنسانية الخارجية لدولة الإمارات جزء لا يتجزأ من مسيرتها والتزاماتها الأخلاقية تجاه الشعوب الأقل حظاً. ولا ترتبط... بدين أو عرق أو لون أو ثقافة [أو] الاختلاف السياسي».

وقد أدركت دولة الإمارات أهمية الدبلوماسية الإنسانية كأحد مصادر القوة الناعمة لها، حيث تُسهم في تشكيل صورتها في الخارج، وترسل رسائل إيجابية للصداقة والشراكة. وأخيراً، وليس آخراً، فإنّ نموذج الدولة الإنسانية الإماراتي نموذج أصيل يجد أصوله في الحضارة الإسلامية التي تحتفي بتنوع الملل والنحل والأعراق في إطار التسامح الإنساني. كما أنّه نموذج متواتر عبر الأجيال، منذ تأسيس دولة الاتحاد. ويُسهم في هذا التواتر المواطنون والمقيمون على حد سواء، عن طريق هذا التعايش والتلاحم الإنساني بينهم الذي قل مثيله في العالم، والذي خلق هويّة إماراتية إنسانية خالصة.

*متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية