مرض يجتاح وادياً معزولاً بين الجبال، ويصيب أبصار أهله فيفقدهم النظر تدريجياً إلى أن يصبح جميع سكان الوادي «عميان» إثر انتقال المرض من جيل إلى جيل. تمر الأيام لتصبح حتى كلمات مثل البصر والإبصار وما يرتبط بهما من مفردات في لغة أهل الوادي غير موجودة ولا محل لها في قاموسهم، وهم البعيدون أصلاً عن أي تجمع سكني، فبات الوادي بالنسبة لسكانه هو الكون كله، ولا شيء سواه.

‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬إلى ذاك الوادي يأخذنا الأديب البريطاني هربرت جورج ويلز بقصته «بلد العميان». ولمن لا يعرف ويلز، فهو أحد أهم مؤسسي أدب الخيال العلمي، ومن خلال الخيال العلمي طرح أفكاره ووجه سهام نقده للمجتمع.

الحياة في «بلد العميان» - كما يصورها ويلز- لها قوانينها، وبالتالي من أراد العيش فيها عليه أن يخضع لتلك القوانين التي وضعها «العميان» بأنفسهم. بُعد الوادي عن المناطق المأهولة زاد من عزلة الناس فيه، وبالتالي لم يكن يتسنى لأحد الوصول إليهم بطريقة اعتيادية، غير أن الأقدار ساقت متسلق جبال يُدعى نيونز إلى البلدة عندما هوى من على الجبل وهو يمارس هوايته، وسقط على غصون الأشجار.

حينما سار بين بيوت البلدة وجدها من دون نوافذ، وجدرانها مطلية بفوضوية وعشوائية بألوان صارخة غير منسجمة مع بعضها بعضها . أثار المشهد نيونز الذي حكم على باني تلك البيوت بأنه أعمى، وحكمه هذا كان بمثابة سخرية، وليس تكهناً أو محاولة لفك لغزٍ ما.

نيونز وكلما توغل نحو عمق البلدة، حاول محادثة الناس الذين كانوا يسيرون بالقرب منه، لكنهم لم يلتفتوا نحوه، عندها فقط أدرك أنه في بلد كله عميان، وساوره خاطر بأنه إن عاش بين هؤلاء القوم سيكون له شأن بينهم، وأنه سيصبح ملكاً عليهم دون أن ينازعه على ذلك أحد. استقر نيونز في ذلك البلد واكتشف لاحقاً أن ما فكر فيه لم يكن إلا وهماً لأنه وبمرور الوقت اكتشف صعوبة تحقيق مراده.

فأهل المكان - وبحاسة السمع الدقيقة عندهم - كانوا يعرفون كل حركة يقوم بها، ويعرفون متى مشى على العشب، ومتى مشى على الصخور، كما كانوا يلجؤون إلى استخدام حاسة الشم لمعرفة تفاصيل أخرى.

وكان لأهل البلدة فلسفة في تقسيم الزمن إلى قسمين يعادلان الليل والنهار، فالبرودة تعادل النهار الذي يمارسون أعمالهم خلاله، والدفء يعادل الليل حين يبيتون. خلال وجوده في البلدة، كان نيونز يحكي لأهلها عن الطبيعة وجمال ما فيها من تضاريس، وعن التغيرات التي تطرأ على اليوم بين نهار وليل، غروب وشروق، ولأنهم لا يرون ما يتحدث لهم عنه لم يصدقوه. قرر نيونز الفرار من البلدة معتقداً أن أحداً لن يكتشف الأمر، لكن الناس تمكنوا من اللحاق به مستخدمين حاستي السمع والشم إلى أن حاصروه، فما كان منه بعد يوم طويل من التعب والجوع والبرد إلا أن يعود معهم معترفاً لهم بأنه لم يكن يمتلك نضجاً كافياً حين فكر بالهرب، وأنهم بالفعل محقون بأن لا شيء اسمه بصر.

حين أحب نيونز إحدى الفتيات طلبها من أبيها الذي استشار بدوره حكماء البلدة، وكان رأي هؤلاء بأن قبول طلب الشاب مرهون باستعادته عقله، وهذا لن يتحقق إلا إذا استغنى عن العضوين المنتفخين الموجودين في وجهه، اللذين يطلق عليهما اسم (عينين) عندئذ يمكنه الزواج بالفتاة. رفض نيونز بداية لكنه في النهاية رضخ لتوسلات الفتاة التي أحبته.

قرر الشاب أن يرى العالم من حوله للمرة الأخيرة قبل أن ينفذ الشرط، ويصبح أعمى. خرج فجراً ليرى الشفق يغمر الوادي بلون أخاذ يبهر الناظرين. استعاد الشاب ما مر معه وكيف أقنعه أهل البلدة أن البصر لا طائل ولا فائدة منه، ووقتذاك فقط أدرك أن استمرار وجوده في ذلك المكان هو خطأ كبير. مرة أخرى قرر الهرب لكن هذه المرة يجب أن ينجح.

كان يتسلق الجبل ويداه تدميان وملابسه تتمزق، ومع غروب الشمس غاب بلد العميان عن ناظريه لتنتهي حكايته مع مجتمع يسيطر عليه الجهل. ويلز وعبر قصته يقدم حكمة مفادها أن على الإنسان اتباع المنطق والصواب لا سواهما، وتغليب صوت العقل دوماً، وغير ذلك سيكون المرء - مجازاً - أعمى لا محالة.