قبل انتشار وباء كورونا تلقيتُ دعوةً لإلقاء محاضرة في كلية الدراسات الإسلامية في جامعة بيرمنغهام في بريطانيا. مدير الكلية أستاذ من أصل دانمركي (يورغن نسلن) سبق له أن درّس في الجامعة الأميركية في بيروت وتزوج من سيدة سورية أرمنية من مدينة حلب، وهي تتولى الإشراف على مكتبة الكلية.

بعد المحاضرة دُعيتُ لزيارة المكتبة، وهنا كانت المفاجأة. فقد عُرضت أمامي مجموعةٌ كبيرةٌ من المخطوطات الإسلامية.

فسألت: كيف وصلت كل هذه المخطوطات إلى هنا؟ جاءني الجواب التالي: إن السيد كادبوري (نعم هو نفسه صاحب شركة الشوكولا التي تحمل اسمه) قدّم كل هذه المخطوطات الإسلامية هدية إلى الجامعة. وكان قد جمعها من ماله الخاص، إذ عهد إلى مواطن عراقي سرياني بشراء كل ما تصل إليه يده من المخطوطات الإسلامية في العراق وسوريا. وكان بين هذه المخطوطات المصحف الشريف. وهو ذاته المصحف الذي أعلن علماء الآثار مؤخراً أنه المصحف الأقدم على الإطلاق، بدليل أنه مكتوب بالخط الحجازي القديم (دون تنقيط). وأثبت البحث العلمي أيضاً أن عمره حوالي 1500 سنة. وجرت مقارنة بين الخط الذي كُتبت به رسائل رسول الله محمد عليه الصلاة السلام إلى قادة الدول المجاورة للجزيرة العربية في ذلك الوقت يدعوهم فيها إلى الإسلام وبين الخط الذي كُتب به المصحف.. فجاءت النتيجة متشابهة إلى حد التطابق. وهكذا ثبت الآن أن أقدم مخطوط للمصحف الشريف موجود في مكتبة الكلية الإسلامية في جامعة بيرنغهام.

هنا لا بد من التساؤل: أي معجزة نجّت هذا المخطوط من النيران التي أضرمها التتار في مكتبات بغداد؟ أو من مياه دجلة والفرات التي أغرق فيها المغول كتب العلوم والشريعة؟ لا أعرف حجم الثروة من المخطوطات الإسلامية في مكتبة الفاتيكان، ولكني أعرف جيداً أن هذه المكتبة قد تكون الأغنى في العالم، بما فيها من المصاحف الشريفة.

هذا عن القرآن الكريم، فماذا عن أقدم نسخة من الإنجيل؟ يعود عمر مخطوطة الإنجيل الأقدم إلى منتصف القرن الرابع الميلادي. وتتألف هذه المخطوطة من أربعة أقسام، كل قسم منها موجود في مكان مختلف، وهي: المكتبة الإنجليزية في لندن، ومكتبة جامعة ليبزيغ في ألمانيا، والمكتبة الوطنية في جامعة سان بترسبورغ في روسيا، ودير القديسة كاترين في سيناء بمصر. وفي الأساس كان المخطوط بكامله موجوداً في هذا الدير. ونظراً لتمسك كل جهة بالجزء الذي تملكه الآن، فقد تعذر جمع الأجزاء الأربعة من جديد.

إلا أن المرجعيات المسؤولة عن كل قسم، توافقت على تجميع النصوص عن بُعْد (إلكترونياً). وحتى هذا الأمر لم يكن سهلاً. فدير القديسة كاترين لم يوافق على المشاركة في المشروع إلا بعد أن حصل على إقرار من الجهات الثلاث الأخرى بأن مشاركته لا تسقط حقه المعنوي في أنه المالك الشرعي للأجزاء الثلاثة الأخرى. وبالفعل فإن مخطوط الإنجيل بكامله كان محفوظاً في الدير، غير أن القوى التي احتلّت المنطقة وسيطرت على الدير عملت على نقل الأجزاء الموجودة الآن في إنجلترا وألمانيا وروسيا. نعرف الآن كيف وصلت النسخة الأقدم من القرآن الكريم إلى مكتبة جامعة بيرنغهام في إنجلترا.

ولكن السؤال هو: كيف وصلت أجزاء الإنجيل المقدس إلى جامعات في روسيا وألمانيا وانجلترا؟ الرواية المتفق عليها تقول إن أجزاء من الإنجيل أُخذت من دير القديسة كاترين في القرن التاسع عشر على سبيل الإعارة.

وأن المسؤول الروسي في المعهد القيصري الذي استعارها كان يُدعى قسطنطين فون تيشيندورف. ولكن في عام 1933 باعت الحكومة الروسية إلى بريطانيا قسماً من النص الذي استعارته وتعهدّت بإعادته. ولما وصل هذا النصّ المقدّس إلى لندن جرت احتفالات دينية كبيرة ابتهاجاً به.

وكانت الحكومة القيصرية قبل ذلك قد باعت إلى الولايات المتحدة في عام 1867 منطقة آلاسكا كلها بمبلغ 7,2 مليون دولار فقط، علماً بأن مساحتها تبلغ حوالي 856 ألف ميل مربع. وفي الحالتين ما كان لروسيا القيصرية أن تفعل ذلك لولا حاجتها إلى المال. وهذا يعني أن النص بكامله كان موجوداً ومحافظاً عليه في دير القديسة كاترين في سيناء.

وفي هذا الدير أيضاً، يفترض أن يكون نص الرسالة التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رهبان الدير، والتي تؤكد الوثائق الإسلامية أنه عليه الصلاة والسلام أملى نصّها على الإمام علي كرّم الله وجهه، وأنه خلافاً لما ورد في رسائل النبي الأخرى إلى ملوك وقادة الجوار، فإن رسالته إلى رهبان الدير لم تتضمن دعوتهم إلى الإسلام، بل أقرّهم فيها على دينهم وألزم المسلمين بالدفاع عنهم وحمايتهم وحتى بالقتال عنهم.

واحتفظ رهبان الدير بالرسالة النبوية من عام 620 حتى عام 1517 عندما نقلها السلطان العثماني سليم الأول من الدير إلى إسطنبول حيث ما تزال محفوظة هناك حتى اليوم. وجاء في هذه الرسالة: «ووالله لأمنع كل ما لا يرضيهم.

فلا إكراه عليهم ولا يُزال قضاتُهم من مناصبهم ولا رهبانهم من أديرتهم. لا يحق لأحد هدم دور عبادتهم، ولا الإضرار بها، ولا أخذ شيء منها إلى بيوت المسلمين. فإذا صنع أحد غير ذلك فهو يفسد عهد الله ويعصي رسوله». وجاء فيها أيضاً: «لا يجبرهم أحد على الهجرة ولا يضطرهم أحد للقتال. بل يقاتل المسلمون عنهم». وهذا يعني أن قتال المسيحيين لأنهم مسيحيون محرّم في الإسلام، وأن الدفاع عن المسيحيين لأنهم مسيحيون واجب ديني في الإسلام، وهو استجابة لدعوة رسول الإسلام نفسه. ومن هنا أهمية تحديث التراث لتحريره من عوالق سوء التأويل وسوء التوظيف.

*كاتب لبناني