بعد الإثباتات التي برهنتها حالة التدين من ضرورة وجودها، ونتاجاتها الإيجابية على الفرد والمجتمع، يظل هنالك سؤال ملح تتدافع محاوره بين طبيعة التدين، ومدى اقترابه من النفس البشرية النقية، بعيداً عن مؤثرات الكم التراثي المتناقل وما يحمله من معطيات. 
وقد ورد عن الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein) قوله لأحد أصدقائه: «أنا لست رجلاً متديناً، لكنني لا أملك سوى أن أرى كل مشكلة من منظور ديني»، فهل يشكل الدين حقاً حالةً فطرية دائمة الاستغاثة للاستزادة والإشباع؟ سيما أن التدين يمثل مطلباً لم نجد حضارةً أو شعباً يستغني عن وجوده، وهو يتلاقى مع قول الله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ»، مما يعني أن التدين فطرة وضع الله تعالى استحسانها في أفئدة الناس، سيما أنها تتناغم «برشاقة» وما يخلص له العقل من استنتاجات إزاء الغث والسمين، وقد قال النبي محمد صلى الله في ذات السياق: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه». 
ولعل زيادة مساحة العناية في ما للإنسان من حقوق وما عليه من واجبات، تجعلنا نقترب من تحديد المكان الأدق للتدين، إذ تنقسم الحقوق الواجبات كل منهما لنوعين رئىيسين، ولا يكون الحصول على الحقوق إلّا في حال الالتزام بتنفيذ الواجبات. فأما الحقوق فتنقسم لحق طبيعي ثابت الحضور منذ ولادته وحتى وفاته، متركز في حقه في التكاثر (الإنجاب)، وحقه في صون روحه (حق الحياة)، وحقه في عدم الاعتراض على اعتقاده الديني. وأما حقوق الإنسان الوضعية، فتتمثل في «حقيبة» الحقوق التي تمنح للأفراد بفعل قرارات المشرع، التي غالباً ما تقوم بها الإدارة السياسية لكل دولة، وتخصص من خلالها «دستوراً» يعنى بتنظيم شؤون مواطنيها وإدارتها، مع تنظيم سيرورتها، وتجديد حلتها حسب الحاجة، وقد توالدت نماذج متعددة في المجتمعات على خطاها كالميثاق الوظيفي للمؤسسات، وقوانين الجامعات الخاصة بكل منها. وأما فيما يتعلق بالواجبات، فهي موسومة بالواجب الأخلاقي، الذي يعتبر «عقداً ملزماً» مبنياً على تكوين أخلاقي لدى الأفراد، جاعلاً بداخل كل منهم استشعاراً حساساً بالمسؤولية المترتبة عليه تجاه أفراد مجتمعه، ويأتي تبعاً لذلك الواجب الاجتماعي، الذي يترتب من الشخص تجاه الآخرين كـ«التزام أخلاقي»، يخلص مجتمعاً لتحقيق معنى التكامل في المجتمع. 
ومع الإسهاب في الحديث عن الحقوق والواجبات، نجد أن كافة النوازع التي تدفع بطلب النفس لـ«جرعة من التدين»، هي ذاتها القائمة على استيعاب حاجتها للحق في المجتمع، والمذعنة لمسؤوليتها تجاه الآخرين دون تعنت أو تعصب، مما يعني نفس بشرية سوية ونقية من شوائب الأخلاق، وقائمة على تحقيق مقاصد الشارع، وتحقيق حكمته من وجود الخلق: وقد ورد في الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه». 
وفي صدد الالتفات للقول الذي يرى بأنه إذا كان: «الإنسان مدنياً بطبعه، فينبغي أن نقول: إن الإنسان متدين بفطرته»، فإن ذلك يلزمه التفكيك المتأني لمصادر استلهام الإنسان لقوته، التي لخصت في سبيل شحن القوة العلمية والإرادية للإنسان، من خلال عدة نقاط تجتمع في فحواها على أن الإنسان يحتاج معرفة إلهه الذي خلقه، وقدر له حياته، وأنعم عليه مختلف النعم، وبالتالي فإن هذا الإنسان يمتلك حاجة فطرية للاستزادة من المعرفة التي تقوده لفهم الصفات الربانية، والوسائل التي تقربه من ربه، والتي تفضي بالضرورة للتعرف على ما يحيط بهذه العلاقة من تحديات وصعوبات، والتي تضم علاقة تعارفية بين الفرد ونفسه التي أصبح قادراً على اكتشاف نقاط ضعفها وسلبياتها. 
وفي ظل ما يتحسسه العالم اليوم من عثرات عارضت سبيل التدين، وأفسدت الكثير من معانيه، يكون الأجدى والأقرب «تقويم» حالة التدين تلك من خلال إعادة البناء للخطاب الديني، والمرونة في نقد الموروثات من قبل القائمين الكفؤ على ذلك، سيما أنه أحد أدوات تحقيق ميزات الدين الذي يتفوق على القوانين الوضعية بصلاحيته الممتدة عبر الزمان والمكان، ويحترم خصوصيات تكوين النفس البشرية، التي تمتاز عن سواها من الكائنات باختيارية تصرفاتها وتتفوق سلوكياتها التي توجه من خلال «عقيدة» لا ترى هيئتها في دواخل كيانه، ولكن لها القدرة على تغيير العالم، و«شقلبة» موازينه، فإذا صلحت تلك العقيدة اتجهت بمن حولها للصلاح، وإذا فسدت امتد إفسادها لحدود بعيدة.
أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة