يتحدث العالم حالياً حول إمكانية نشوب حرب عالمية ثالثة، بافتراض أن ثمة مؤشرات على بوادرها مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت يوم 24 فبراير الماضي، وما زالت جبهاتها مشتعلة. وقد انقسمت دول العالم بين مؤيد للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ومعارض لها ومحايد في موقفه إزاءها.

وبسبب الدمار الذي أحدثته وتحدثه الحرب وما يترتب عليها من خسائر في الأرواح والممتلكات، فقد بدأ الاقتصاد العالمي يتأثر جراءها بشدة، وأخذت مصادر الدخل تشح، والمواد الغذائية تنقص، وسلاسل التوريد تضطرب.. مما تسبب في ارتفاع متواصل لأسعار السلع في سائر أنحاء العالم، بل فقدان بعضها أحياناً، لاسيما السلع الغذائية التي شحت أصناف منها في بعض أسواق المدن العربية.

لقد اكتشفنا أن أوكرانيا كانت تغذي نصف العالم بالقمح والزيت، والكثيرون كانوا يجهلون هذه المعلومة قبل الحرب، لكن اتضح أن أغلب الدول العربية كانت تستورد القمح وزيت الطعام من أوكرانيا التي أصبحت الآن شبه منكوبة. ورغم مساحات الأراضي العربية الصالحة للزراعة، وتوفر المياه العذبة من الأنهار والبحيرات الجوفية، فلم يتم إلى الآن استثمار هذه الإمكانات الزراعية الوفيرة لتأمين الغذاء للمجتمعات العربية.

اكتشفنا أيضاً كذبة «النظام العالمي الجديد» الذي بشرنا في بداية قيامه مطلع التسعينيات بأنه سوف يكون نظاماً عالمياً جديداً مسالماً، خالياً من أسلحة الدمار الشامل، ومن الحروب التي تحصد أرواح البشرَ وتقتل الأطفال وتشرد النساء وتقضي على الزرع والضرع.. بل سيسود في ظله الأمن والأمان والسلم، وتعم التنمية والديمقراطية، وتشيع ثقافة التسامح وحرية الرأي وحماية حقوق الإنسان، وسيعيش العالم بسلام ووئام واستقرار، وتستمر التنمية والنهضة ويعم الازدهار. اكتشفنا أن كل ذلك أوهام وحبر على الورق، ومجرد خطابات رنانة وكلمات منمقة للاستهلاك المحلي والتسويق الانتخابي، ليس إلا.

لقد تبخرت الكلمات والخطابات ولم نر لها ثمرةً واحدةً، بل رأينا فقط حروباً ومخلفات حروب، وأصبحت قوى «النظام العالمي الجديد» في سباق دائم لتصنيع الأسلحة الذكية الفتاكة، الأسلحة التي تحصد أرواح البشر وتقضي عليهم عن بعد وبدقة متناهية. لقد تم استغلال التقنية الحديثة المتطورة للقضاء على الإنسان بلمسة زر وعلى بعد آلاف الكيلومترات، وأصبح مشهد المعاقين ومبتوري الأطراف منظراً مألوفاً في شوارع المدن العربية، حيث تفشت البطالة أيضاً وزادت أعداد اللاجئين والمهجَّرين والأيتام والأرامل، وكثُرت مخيمات الفارين من الحروب في ديارهم، وارتفعت الجريمة، وتوسع خط الفقر المدقع، وزادت الأمراض المستعصية والأورام السرطانية، وتفشى وباء الفساد، وتراجع التعليم وتضاعفت الأمية، وانكفأ العمل التطوعي والخيري، وتراجعت الأعمال والمبادرات الإنسانية.. كل ذلك بسبب الحروب والروتين والبيروقراطية في عصر النظام العالم الجديد الذي كشر عن أنيابه ومخالبه في وجوه الضعاف فقط.

وفي ظل النظام العالمي الجديد أصبحت المبادرات الإنسانية تفصَّل تفصيلا حسب الأهواء والمزاج والأجندات السياسية الخفية المشبوهة التي تخدم دولا ومشاريعَ سياسية بعينها، وليس من أجل العمل الإنساني الذي تلاشى واختفى، وأصبح العديد من أجهزة العمل الحقوقي والإنساني الأممية مخترقاً ومسيساً، ووسيلة للتآمر على الدول واختراق أمنها الداخلي، بلا مهنية ولا إنسانية.. فأي نظام عالمي جديد هذا الذي في كل يوم جديد يرتدي قناعاً، وفي كل فترة يأتينا بثوب آخر ووجه مختلف، بحثاً عن مصالح وأهداف ومآرب خفية غامضة؟!

*كاتب سعودي