كتب كثير من الباحثين عن الفوارق الكبرى بين العالمية والعولمة، وأدركت الشعوب خطر هذا المزيج الذي تذوب فيه مكونات الدول الصغرى والمتوسطة في محيط ضخم من القوى الكبرى القادرة على السيطرة، ويبدو أن الحد الفاصل بين التوجه العالمي للشعوب والدول قد انتهى بانتصار المعسكر الغربي على معسكر الشرق حين تفكك الاتحاد السوفييتي ودخل العالَمُ مرحلةَ سيادة القطب الواحد.

كانت سنوات الحرب البادرة بين المعسكرين قاسيةً على الشعوب جميعاً، وبخاصة على شعوب شرق أوروبا الخاضعة للاتحاد السوفييتي الذي اهتم بصناعة الأسلحة وحروب الفضاء وتطوير أسلحة الدمار الشامل، وأهمل كثيراً جوانب التنمية الصناعية التقنية وتطوير الخدمات الاجتماعية.

ولعل أخطر عنصر حيوي غاب عن حياة الناس في بلدان الكتلة الاشتراكية هو الحرية. لكن هذه الشعوب قامت بثورات ملونة ابتهاجاً بسقوط المعسكر الشرق وحكوماتها الاشتراكية ذات القبضة السلطوية في بلدانها، ولسوء حظها لم يكن البديل الديمقراطي الغربي أقدر على مكافحة الاستبداد الذي ظهر سريعاً عبر مافيات السلطة في كثير من البلدان، ولعل هذا مصداق ما تحدث عنه صموئيل هنتغتون في إنذاره من خطر الاعتقاد بحتمية فرض القيم الغربية لأنها ستؤدي إلى مزيد من العداء.

لقد توجس كثيرون من خطر سطوة العولمة منذ أن سطع نجمها في تسعينيات القرن الماضي، وكان الفرنسيون أبرز المتوجسين، فقد ساورهم القلق حول مصير لغتهم وثقافتهم الفرنسية المهددة بالأفول أمام قوة انتشار اللغة الإنجليزية وثقافتها التي سادت الكونَ كلَّه تقريباً. أما العرب فتمسكوا إلى حين بدعوتهم التاريخية إلى العالمية التي يجسدها الإسلام، لكنهم على الصعد الرسمي مضوا مع تيار العولمة مضطرين لأنهم لا يملكون قدرةَ المنافسة الكافية.

أما الروس فعاشوا فترة انهيار قاسية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وتراجعت مكانة روسيا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وأهملها الغرب، ومرت بضع سنوات عجاف عانى فيها الروس كثيراً من تداعيات السقوط التراجيدي. وكانت ألمانيا قد أنقذت نصفها الشرقي الآخر، وضمته سريعاً إلى حضنها الغربي، بينما فقدت روسيا محيطها وبقيت عاجزة عن النهوض حتى مطلع الألفية الراهنة.

ومع صعود فلاديمير بوتين، الذي كان مفجوعاً بما حل ببلاده من تراجع وسقوط، بدأت روسيا تستعد للنهوض عسكرياً، ولعله قرأ بعناية ما قاله هنتغتون حول صراع الحضارات منذ منتصف التسعينيات، ومنه أن أوكرانيا قد تنقسم على طول الخط الثقافي بين أوكرانيا الغربية الأكثر كاثوليكية وأوكرانيا الشرقية الأكثر أرثوذكسية، وأضاف: «بينما يسلط نهج الدولة الضوء على إمكانية نشوب حرب روسية أوكرانية، فإن النهج الحضاري يقلل من ذلك ويبرز بدلاً منه إمكانية تقسيم أوكرانيا إلى النصف، وهو الفصل الذي قد تؤدي العوامل الثقافية إلى جعله أكثر عنفًا من تشيكوسلوفاكيا وأقل دمويةً من يوغوسلافيا».

ويبدو أن النهج الحضاري الذي أشار إليه هنتغون لم يفلح في إيقاف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، لكن توقع هنتغتون تحقق في كون الحروب الراهنة هي حروب ثقافات وإثنيات وانتماءات دينية مذهبية.

وقد سبق لهنتغتون نفسه أن أشار إلى كون «الناتو يشكل تهديداً للأرثوذكسية الروسية»، وحين سقطت رؤية فيكتور يانوكوفيتش ببقاء أوكرانيا ضمن المحيط الروسي، انتصرت رؤية زيلنسكي المتوجه نحو الغرب، لكنه رأى أثناء الحرب الراهنة أن الغرب خذله، وفي النهاية بدا أن عصر العولمة انتهى، ومن المتوقع أن يعود العالم إلى العالمية. وقد كان مثيراً أن يعلن الرئيس الأميركي بوش الأب عن ولادة نظام دولي جديد، ضمن سياسة القطب الأوحد المنتصر، رغم الحروب الكثيرة التي شنت الولايات المتحدة أخطرَها من أفغانستان إلى العراق، لكن من سماه هنتغتون العدوَّ الأخضر لم يهزم تماماً، وظهر العدو الأرثوذكسي داخل المنظومة ذاتها.ويبدو أن تخلي الولايات المتحدة عن التزاماتها التاريخية سيضطر الأصدقاء القدامى، الذين يشعرون بالخيبة جراء تخلي أميركا وضغوطها الناعمة، للبحث عن حرية الحياد للحفاظ على مصالحهم الوطنية والتمسك بقراراتهم السيادية.

*وزير الثقافة السوري السابق