كانت الحروبُ هي الأداة الرئيسة في إدارة الصراعات الدولية على مر التاريخ. الفتراتُ التي أمضاها البشرُ في محاربة بعضهم البعض أطولُ من تلك التي ساد فيها السلام. وظل الحالُ كذلك إلى أن بُدئ في تنظيم العلاقات الدولية تدريجياً منذ منتصف القرن السابع عشر في مؤتمر وستفاليا، الذي أُرسي فيه مبدأ سيادة الدولة، ووصولاً إلى أوائل القرن التاسع عشر في مؤتمر فيينا.
أسهمت القواعدُ التي نتجت عن ذلك التطورَ في ازدياد الوعي بأهمية السلام والحلول السلمية، لكنها لم تضع حداً للحروب التي بقيت هي أكثر ما يثيرُ الاهتمام. فما أن تنشب حربٌ حتى تُغطي على غيرها من القضايا الدولية. وعندما تكونُ الحربُ بين قوى كبرى، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، يبدو أن مستقبل العالم يتوقفُ عليها. ونجدُ شيئاً من ذلك الآن في التعامل مع الحرب في أوكرانيا، إذ يُعتقدُ في بعض الأوساط أنها ستُغيِّر النظامَ العالمي الراهن.
غير أن تأمل أنماط التفاعلات الرئيسة المؤثرة في هذا النظام اليوم يُفيدُ أن المعركة الكبرى بشأن مستقبله تدورُ بين الصين والولايات المتحدة بوساطة أدواتٍ اقتصاديةٍ وتجاريةٍ وماليةٍ وتكنولوجية. ولا يعني هذا أن الحرب في أوكرانيا غير مؤثرة. أثرُها الاقتصادي كبيرٌ في العالم. لكن أثرها في تغيير النظام العالمي قليلٌ مقارنةً بالمعركة الكبرى الدائرة بين الصين وأميركا. فالصين تُحقِّقُ تقدماً مستمراً في سعيها إلى تقاسم قمة هذا النظام مع أميركا في إطار ثنائيةٍ قطبيةٍ جديدةٍ مختلفة عن تلك التي عرفها العالم بين أواخر أربعينيات القرن العشرين ونهاية ثمانينياته.
وكلما ازداد اقترابُ الصين من القمة، قلّت قدرةُ أميركا على منع هذا التطور، والذي يُؤملُ أن يجعل العالَمَ أفضل. ففي كل تغييرٍ يَحدثُ في قمة النظام العالمي، تُعاد صياغة بعض القواعد التي تنظمُ العلاقات الدولية، من خلال توافقاتٍ جديدةٍ تؤثرُ فيها القوى الصاعدةُ إلى هذه القمة.
والحال أنه لا تتوافر حتى الآن مقومات كافية لتغير النظام العالمي في اتجاه تعددي، لأن المسافة التي تفصل كلاً من الصين وأميركا عن القوى الكبرى الأخرى بعيدة. ومتعددة هي المجالات الكاشفة لبُعد هذه المسافة. وإذا أخذنا التكنولوجيا الرقمية مثالاً، لا نجد مَن يمكنه الاقتراب في وقت معقول مما تحقَّقه الدولتان على مستوى الثورة الجديدة في هذا المجال، والتي استعير تعبير ما وراء العالم (ميتافيرس) لإطلاقه عليها. 
ورغم أن عدد الشركات الأميركية التي دخلت هذا المجال أكبر، تُحقِّق شركات صينية اختراقات مستمرة فيه، مثل تينسنت، وبايت دانس، وبايدو، وغيرها كثير. ومن أهم ما يتسابق فيه الصينيون والأميركيون الآن السعي إلى تطوير استخدام الميتافيرس في الصراعات الدولية، على نحو سيؤدي إلى اختراقات منها، على سبيل المثال، تحقيق تحول نوعي في مجال الحرب السيبرانية.
وليس هذا إلا غيضاً من فيض التحول الذي يحدث اعتماداً على أدوات المستقبل، وليس على الحروب التي تُعد من أدوات الماضي رغم استمرارها حتى اليوم. 

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية