عندما بدأ طلائع المتخصصين الأُول في علم السياسة من حملة الدكتوراه يعودون إلى الوطن من بعثاتهم الخارجية مع منتصف ثمانينيات القرن العشرين وبداية تسعينياته، تولدت لدى الكثيرين من المهتمين بالتعليم آمال وتطلعات بأن تتكون في دولة الإمارات مجموعة من العلماء المتخصصين في هذا التخصص المهم الذي توليه الأمم المتقدمة في أنحاء المعمورة كافة الكثير من الاهتمام، وترعى المتخصصين فيه، وتشجعهم وتفتح أمامهم آفاقاً واسعة للتبحر فيه وفي فروعه وتخصصاته المتعددة.

ويعود السبب في ذلك خاصة منذ ثلاثينيات القرن العشرين إلى أن علم السياسة بحر واسع يدخل في العديد من شؤون الأمم اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. هذه الأمم تبنى على ما يتوصل إليه علماء السياسة من مقولات واستنتاجات ونظريات وأفكار خلاقة، معظم خططها التنموية على الصعد الاقتصادية والسياسية والإدارية، ومجالات الإدارة العامة والعلاقات الدولية والدراسات المستقبلية. لكن تلك النظرة التفاؤلية التي تولدت لم تذهب بأصحابها بعيداً، ولم يتحقق من آمالهم وتطلعاتهم سوى القليل، وبقي العلم يزحف ببطء ولأسباب كثيرة.

ورغم الاعتقاد السائد بأن علم السياسة في الإمارات لم يذهب بعيداً كتخصص يخدم الدولة والمجتمع على صعيد المجالات التي من المفترض أن يقوم بها المتخصصون فيه، إلا أن عدداً منهم قاموا ولا يزالون يقومون بجهود ملحوظة على الصعيد الداخلي للدولة، ومنتشرون على الصعيد العالمي، بالإضافة إلى المبادرات الخلاقة التي يقومون بها في خدمة الوطن والدولة والمجتمع.

وربما أن الجانب المتعلق بعدم القدرة على أداء الأدوار والواجبات المطلوب من المتخصصين القيام بها تعود إلى الحساسية المرتبطة بمصطلح سياسة لدى بعض الأطراف، وذلك خلطاً منها بين ممارس السياسة وبين المتخصصين في علم السياسة الذي هو حقل أكاديمي وموضوع دراسة وتخصص من أصعب وأدق الدراسات الاجتماعية والإنسانية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالنظم والنظرية السياسة وحقل العلاقات الدولية. لذلك، فإن المتخصص في العلوم السياسية ربما يتساءل بينه وبين نفسه كيف يصبح تخصصه أكثر فائدة وإنتاجاً في خدمة الوطن؟وهو يريد أن يعلم ما هي السبل المتاحة أمامه لكي يحقق ذلك، وبأي الوسائل وضمن أية محددات، وما هي الفرص المتاحة له لكي يصل إلى هذه النهايات؟ وهو يتساءل أيضاً عن الجهات التي يمكن له أن يلجأ إليها ويستعين بها، هل هي الدولة الاتحادية، أم الحكومة المحلية، أم القطاع الخاص؟ 

مثل هذه التساؤلات قائمة ولا يجانبها الصواب فهي مشروعة وموضوعية وواقعية وستبقى مطروحة باستمرار. المتخصصون في العلم هم من تقع على كواهلهم الأعباء الأكبر لتوفير خريطة طريق لأنفسهم لكيفية التعامل مع هذه الأسئلة أو أن علمهم سيبقى عديم النفع ويسير على غير هدى.

هذا الطرح ليس للقول بأنه يجب على علم السياسة والمتخصصين فيه في دولة الإمارات أن يكونوا قادرين على توفير إجابات سهلة وبسيطة وواضحة على الأسئلة  الموجودة أمامهم، أو جواب واحد فقط لكل مشكلة عملية يعيشونها، لكن للقول بأن علم السياسة والمتخصصين فيه يجب أن يوضحوا كيفية التعامل مع مشاكل حقلهم وإيجاد حلول عملية لها، وما هي الطبيعة الخاصة بالإجراءات المنتظمة لمعالجة حالة الجمود في الحقل بحد ذاتها, وما هي الاعتبارات التي يجب أن يضعوها في اعتبارهم وأمام أعينهم لكي يصبحوا هم وحقلهم التخصصي نافعين حقاً وحقيقة في خدمة وطنهم، وباختصار القيام بالبحث عن أس المشكلة ومسبباتها الحقيقية الكامنة.

ما نسوقه من أفكار هنا هو مجرد مقدمة فقط، وليس محاولة لتكوين منهج متكامل أو بنية شاملة لتحليل وتشريح وضع علم السياسة في الإمارات. حقيقة نحن مهتمون باقتراح أن يقوم المتخصصون في علم السياسة بتكوين منهجٍ هادٍ لحقلهم المعرفي، وأن يسعوا إلى صقل وتعضيد هذا المنهج، وبتوضيح الصورة التي يجب السعي إلى ذلك عن طريقها، وبكيفية تطبيقها المستقبلي على كامل المشروع لو أنه رأى النور.

* كاتب إماراتي