أحدثت الأخبار التي أفادت بأن الرئيس السابق جيمي كارتر قد ذهب إلى دار رعاية نهاية العمر وابلاً من التعليقات التقييمية لحياته وعمله. فبعد خسارة محاولته لإعادة انتخابه أمام رونالد ريجان عام 1980، اعتبر كثيرون رئاسته فاشلة.

آنذاك كان التضخم مرتفعاً عند مستويات قياسية، وثقة المستهلكين في أدنى مستوياتها على الإطلاق، والأميركيون الذين ما زالوا يتعافون من هزيمتنا المهينة في فيتنام كانوا يكابدون صدمة جديدة بسبب الأسر طويل الأمد لموظفي السفارة الأميركية المحتجزين كرهائن في إيران. وكانت الانتقادات غير عادلة إلى حد كبير، لأن هذه المشكلات لم تكن من صنع كارتر وكانت خارجة عن إرادته. ومعظم الرؤساء السابقين، إما يستفيدون من شهرتهم أو يتلاشون مغمورين، لكن كارتر اختار مساراً مختلفاً.

فقد استثمر مكانته وجاذبيته الشخصية لخدمة الآخرين. وبمجرد أن غادر البيت الأبيض تقريباً، تبنى كارتر وزوجته روزالين مشروع «السكن من أجل البشرية»، وهو مشروع تطوعي غير هادف للربح يبني مساكن لذوي الدخل المنخفض ويصلح المنازل في المناطق المتضررة من الكوارث الطبيعية.

وتطوع الزوجان في مشروعات بناء ومثلا الواجهة العامة لشركة «هابيتات» التي قامت من خلال ارتباطها بالمشروع ببناء أكثر من 100 ألف منزل. وحتى في السبعينيات من عمره، كان كارتر لا يزال يخصص أسبوعاً واحداً على الأقل في السنة لمشروعات السكن لذوي الدخل المنخفض. وأصبح مرتبطاً بالمشروع لدرجة أن كثيرين من الأميركيين ربما يتذكرون كارتر، وهو يرتدي زي العمال ويحمل مطرقة أكثر مما يتذكرونه أيام كان يرتدي بدلة في البيت الأبيض.

وفي عام 1982، أطلق الرئيس السابق مركز كارتر الذي وصف دوره بأنه «تدشين السلام ومحاربة الأمراض وبناء الأمل». وقاد مبادرات كثيرة، وسافر حول العالم لمراقبة الانتخابات وتفاوض من أجل السلام في المناطق المضطربة، ودشن برامج للمساعدة في القضاء على الأمراض أو تقديم الخبرة للمزارعين. كان من حسن حظي أن أتعرف على جيمي كارتر.

ومن بين أكثر لقاءاتنا التي لا تنسى، كانت مقابلة مطولة حول حياته وآرائه حول مجموعة من قضايا الشرق الأوسط، وأيضاً جلسة حوارية جلسنا فيها معاً في مركز كارتر حول معاملة إسرائيل للمسيحيين الفلسطينيين. وأكد كارتر الذي قابلته صحة الصورة التي أحبها وترسخت لدى الجمهور عنه. كان متواضعاً وصادقاً ومفكراً، وكان يقبل اللوم ويجفل من الثناء.

وفي لقائنا الأول، أخبرته كيف أنني استأجرت طياراً للتحليق حول كامب ديفيد حين كان يجتمع مع الزعيمين المصري والإسرائيلي. وحرص الطيار على البقاء خارج النطاق الحصري لكامب ديفيد، وحمل لافتة مضاءة كتب عليها «الفلسطينيون هم مفتاح السلام». وابتسم كارتر وقال: «كان هذا أنت! تساءلت من فعل ذلك. لقد كان تذكيراً مهماً». ووصف إحباطه لعدم قدرته على تقديم أكثر مما فعل للفلسطينيين وأشار إلى رد الفعل السلبي محلياً وفي إسرائيل الذي تلقاه مقابل جهوده.

وكتب نفس الشيء إلى حد كبير في رسالة عام 1980 أرسلها إلي قبل مغادرة البيت الأبيض. وانتقد استمرار الولايات المتحدة في «التغاضي» مما سمح للإسرائيليين بتوطيد الاحتلال وكبح أي أمل من أجل سلام عادل. وفي مقابلات أخرى، اعترف بأن صدام حسين كان «زعيماً قاساً وغير كفؤ»، لكنه انتقد بشدة نظام العقوبات الذي تقوده الولايات المتحدة والذي ساهم في مقتل مئات الآلاف من الأطفال العراقيين.

ووصف العقوبات بأنها «تأتي بنتائج عكسية»، قائلاً إنها خدمت النظام. وكان أكثر ما كشف عن شخصية الرجل هو رده حين أثنيت على عمله في مكافحة الأمراض في أفريقيا. تجاهل كارتر الثناء وقال إنه على الرغم من أن مركز كارتر تلقى الأوسمة، إلا أنه لولا الدعم الذي قدمه المغفور له الشيخ زايد مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، ما كان لكثير من أعمال المركز في أفريقيا أن تنجح. وبهذه الخصائص المتمثلة في التواضع والصدق وإدراك الذات المدروس ونقدها، رسخ كارتر سمعته التي اكتسبها عن جدارة باعتباره «أعظم رئيس أميركي سابق». ومع الإعلان الأخير عن دخوله دار رعاية نهاية العمر، تذكرت مقتطفاً من حديث ألقاه في الكنيسة التي يتبعها عام 2019

. فقد قال: «لم أطلب من الله أن يدعني أعيش، لكنني طلبت من الله أن يعطيني موقفاً مناسباً نحو الموت. ووجدت أنني أتقبل تماماً وبالكامل الموت». فهذا هو إرثه. رئيس سابق عظيم علمنا كيف نعيش حياتنا لنكرسها للآخرين، وبينما يقترب من نهايته، يعلمنا كيف نموت بهيبة.

رئيس المعهد الأميركي العربي- واشنطن