أحد أهم الأسئلة التي باتت مطروحة عبر ساحات النقاش الأكاديمي والفكري في أوقاتنا الراهنة، هو ذاك المتعلق بشكل النظام العالمي الجديد، وهل هو نظام ما بعد السطوة الغربية، تلك التي دامت لنحو خمسة قرون، وبالتحديد من عند أزمنة القرن الخامس عشر الميلادي، وحتى نهاية القرن العشرين، حيث نجحت المراكز الغربية الأوروبية، ثم الأميركية، في مراكمة الثروات، ومضاعفة رؤوس الأموال، وتحقيق نهضة تكنولوجية وعسكرية، كفلت الهيمنة على وجه البسيطة.
يمكن القطع أنه منذ عام 2008، ومع الأزمة المالية التي ضربت الولايات المتحدة الأميركية، بدأ المجتمع الدولي على نحو واضح، في التحرك نحو الانتقال، من الصيغة الأولى المعدلة، التي كان يهيمن فيها الغرب، إلى الصيغة الثانية للمجتمع الدولي، حيث عالم التعددية قادم لا محالة، سيما بعدما بدأت التخوم تنمو ويعلو شأنها في مواجهة المراكز، ما تجلى في نهضة الصين والهند، وظهور عالم «البريكس»، ثم «البريكس بلس» في الطريق، وتعاظم شأن منظمة شنغهاي.
في هذا السياق، يمكن القطع بأن الثروة والقوة والسلطة الثقافية الكبرى، قد بدأت في الانقسام مبتعدة عن المركز الغربي القديم، وكذلك عن اليابان، الضلع الثالث في منظومة الرأسمالية العالمية، فيما تزامن ذلك مع تراجع مطرد لمكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة من حيث القدرة المادية والمكانة والسلطة الفكرية.
هل ما تقدم مجرد تنظيرات فكرية إيديولوجية منبتة الصلة عن الواقع العملي؟ بالقطع لا، فما نشهده من تحركات دولية، يشير إلى أن عالم ما بعد الغرب قادم لا محالة.
جاءت زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماركون، الأخيرة للصين، والتصريحات المثيرة للجدل التي أطلقها بشأن التبعية الأوروبية للولايات المتحدة الأميركية، وحتمية نهايتها، لتؤكد أن قلب العالم قد تغير فعلاً، ولم يعد الغرب هو المحور الاستراتيجي الكوني.
لا يعني ذلك بالضرورة أن واشنطن وبروكسل، قد فقدتا مرة وإلى الأبد أهميتهما التاريخية التقليدية، ولا أوزانهما النسبية، على صعيد توازنات القوى، وإنما يعني أن هناك شركاء جدداً على الساحة الدولية، شركاء يجعلون محور العالم يمضي شرقاً، بعد أن ظل لخمسمائة عام قائماً غرباً، إن جازَ التعبير. لم يكن ماكرون وحده من قصد الصين، فقد سبقه إليها المستشار الألماني أولاف شولتز، ومع ماكرون، ذهبت منسقة الشؤون الخارجية في الإتحاد الأوروبي «أورسولا فون دير لاين»، ويبدو واضحاً أن الأوروبيين يعيدون قراءة العلاقات مع الصين. يستشعر القادة في القارة الأوروبية القديمة، أن واشنطن قد تسببت في خسارتهم للطرح الأوراسي، أي العلاقات مع روسيا، وأن معالجة الخلل مع موسكو يحتاج لسنوات طوال، ولهذا يكاد المرء أن يتوقع نسج علاقات أوروبية – صينية، تستبق القارعة التي يمكن أن تجري بها المقادير، بين واشنطن وبكين.
المشروع الليبرالي الذي قدم منذ فترة طويلة أسطورة غائية لهيمنة الغرب على نحو عام والولايات المتحدة الأميركية والأطراف الأنجلوساكسونية بصورة خاصة، يعيش أزمة عميقة نتيجة الركود الكبير الذي بدا في 2008، ثم اضطراب الأوضاع السياسية الداخلية في الولايات المتحدة الأميركية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، ليكتمل المشهد بالوصول إلى جائحة كوفيد-19، والحرب الروسية- الأوكرانية. التي كرست حلفاً بلغ حداً من الشيخوخة على حد تعبير، ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية. هل قادم الأيام يحمل لنا تفاصيل الصيغة الثانية من ما بعد النظام العالمي الغربي؟
غالب الظن أن ذلك كذلك.
* كاتب مصري