تُذكِّر إعادة عرض العمل الأوبرالي «نيكسون في الصين» الآن في خمس دور أوبرا أوروبية بالدور الذي قام به وزير الخارجية الأميركي الأسبق والأشهر هنري كيسنجر في الانفتاح على الصين في مطلع السبعينيات. لم يكن ممكناً أن يهبط الرئيس الأسبق نيكسون في مطار بكين في سبتمبر 1972 إلا بعد نجاح وساطة وزير خارجيته الذي رافقه في تلك الزيارة التاريخية. استثمر كيسنجر بذكائه الدبلوماسي لقاءً جمع لاعبي كرة طاولة أحدهما أميركي والثاني صيني، وتبادلا فيه الهدايا بعد مباراة بين منتخبي الدولتين خلال دورة رياضية أُقيمت في اليابان أوائل 1971. وتحرك للبناء على ذلك الحدث، وتحويله إلى فرصة سياسية، فقام بزيارة سرية إلى بكين في يوليو من العام نفسه، وفتح بذلك البابَ أمام تقارب أميركي صيني غيَّر معادلات الحرب الباردة الدولية، وأسهم في إنهائها بالطريقة التي انتهت بها بعد أقل من عقدين.
وصارت ديبلوماسية كرة الطاولة تلك أساساً لمنهاجٍ نُسب إلى كيسنجر، ومفاده أنه ليس من الحكمة أن تخوض حرباً باردةً أو ساخنة ضد قوتين كبيرتين في وقت واحد. وأصبح ذلك المنهاج جزءاً من نظرية السياسة الواقعية Real Politics في العلاقات الدولية، والتي يُعد كيسنجر أحد روادها فكراً وعملاً. فهو، فضلاً عن امتهانه العملَ الديبلوماسي، أكاديمي حاصلٌ على درجة الدكتوراه في موضوعٍ لصيقٍ بالسياسة الواقعية.
واللافت أن أوبرا «نيكسون في الصين» يُعاد عرضها في الوقت الذي لا يُخفي فيه كيسنجر قلقه الشديد بسبب تصاعد التوتر بين واشنطن وبكين. وقد عبَّر عن هذا القلق بوضوح أكثر من ذي قبل في مقابلة أجرتها معه صحيفة «موندو» Mundo الإسبانية، ونشرتها في آخر مارس الماضي. وأوضح فيها أن تحول الولايات المتحدة والصين إلى خصمين يُمثَّل خطراً على العالم، ويقود إلى حرب باردة ثانية ستكون أكثر خطراً على العالم من الأولى.
وربما يجوز التساؤل، هنا، عما إذا كان قلق كيسنجر الأساسي على العالم، أم على منهاجه الذي تخلَّت عنه الإدارة الأميركية الحالية؟ ويكتسب هذا السؤالُ أهميتَه من أن القلق عليهما معاً ليس منطقياً. فالقلق على العالم يعني، ضمنياً، أن المنهاج الذي تتبعه الإدارة الأميركية الآن قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، ولن يكون مفيداً بالتالي للولايات المتحدة، بعكس المنهاج الذي يتبناه كيسنجر وكانت فائدته لها عظيمة. ويعني هذا أن منهاجه هو الأصح. ففي إمكان واشنطن أن تخوض معارك سياسية واقتصادية ضد روسيا والصين في وقت واحد. لكن الأمر يختلف في حال تطور أي احتكاك غير مقصود مع الصين إلى صدامٍ يصعب السيطرة عليه، إذ يوجد شك عميق في قدرة واشنطن على كسب حربين في وقت واحد، حتى وإن كانتا بالوكالة عبر أوكرانيا وتايوان، وفقاً لمعظم التقديرات العسكرية.
قلق كيسنجر الأساسي، إذن فيما يبدو، يتعلق بالعالم، أكثر مما يرتبط بمنهاجه الذي جُرب ونجح، بخلاف نقيضه المشكوك في فاعليته. 

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية