أشارت البيانات المنشورة مؤخراً إلى انخفاض ملحوظ في معدلات التضخم في بعض البلدان الرئيسية، حيث انخفض التضخم في الولايات المتحدة من 6% في شهر فبراير إلى 5% في شهر مارس المنصرم، كما انخفض في ألمانيا من 8.7% إلى 7.4% في شهر فبراير، في حين شهدت الدول الأخرى بعض التذبذب في معدلات التضخم، وهو ما سيجد له بعض الانعكاسات على الأوضاع الاقتصادية في هذه الدول، وبالأخص على السياسات النقدية الخاصة بإمكانية الحد من الرفع المتواصل لأسعار الفائدة والذي ألقى بظلاله على معدلات النمو.
ووفق «بلومبيرج»، فإن إمكانيات الركود ما زالت عاليةً في الدول الصناعية المتطورة، أعلاها في المملكة المتحدة بنسبة 75% والولايات المتحدة بنسبة 65%، وأقلها في الدول الآسيوية مثل الصين بنسبة 12.5% والهند بنسبة صفرية، في حين يتوقع أن لا تتجاوز نسبة احتمالات الركود في دول مجلس التعاون الخليجي 5% فقط، مما يطرح بعض التساؤلات المهمة الخاصة بآفاق التطورات الاقتصادية العالمية القادمة، خصوصاً وأن هناك ترابطاً قوياً بين المكونات الثلاثة التي أشرنا إليها، أي التضخم وأسعار الفائدة والركود.
وهنا لا بد من توضيح بعض التفاصيل لمعرفة التوقعات الاقتصادية المستقبلية، إذ صحيح أن معدلات التضخم في الدول المتقدمة انخفضت بنسب جيدة، لكن الصحيح أيضاً أن هذا الانخفاض حدث بسبب رئيسي يتعلق بأسعار النفط والغاز والتي شهدت انخفاضات في الأشهر القليلة الماضية، وهو ما وجد له انعكاسات على مستويات التضخم بفعل انخفاض أسعار المنتجات النفطية والبنزين والغاز، أما أسعار باقي السلع، فقد بقيت إما عند مستوياتها المرتفعة أو أنها انخفضت بنسب بسيطة.
وبما أن أسعار النفط تعاود الارتفاعَ بين فترة وأخرى في ظل إصرار مجموعة «أوبك+» على بيع نفوطها بأسعار عادلة، فإن الأسباب التي دفعت باتجاه تخفيض معدلات التضخم غير مضمونة، مما يعني أن هذه المعدلات قد تشهد بعضَ التذبذبات في الفترة القادمة، وهو ما استدعى ببنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى القول بأنه سيستمر في رفع أسعار الفائدة هذا العام، لكن بمعدلات أبطأ، كما أنه من المتوقع أن يرفع البنكُ المركزي الأوروبي أسعارَ الفائدة على اليورو ثلاث مرات في الفترة القادمة.
وذلك ما يبرر البيانات الخاصة بتوقعات الركود التي أشرنا إليها، والتي تبين أن احتمالات التضخم ما زالت عاليةً، وذلك على الرغم من أن بنك الاحتياطي الفيدرالي قد يتوقف عن زيادة معدلات الفائدة مع نهاية العام الجاري إذا ما استمر انخفاض التضخم المرتبط بإمكانية انخفاض أسعار النفط إلى ما دون 70 دولاراً للبرميل، وهذا احتمال لا توجد مؤشرات على حدوثه حتى الآن، رغم أنه غير مستبعد تماماً، إذ يرتبط بإمكانية انخفاض الطلب على النفط في الصيف القادم بسبب العامل الأول الخاص بالركود الاقتصادي المتوقع.
وحتى في هذه الحالة، فإن دول «أوبك+» ستتحرك للدفاع عن مصالحها باتخاذ المزيد من القرارات الخاصة بخفض الإنتاج، مما قد يحد من سرعة الوصول للهدف الخاص بتخفيض معدل التضخم إلى 2% في البلدان المتقدمة خلال العام الجاري، مما يعني أن الاقتصاد العالمي على موعد في الأشهر القادمة مع الكثير من التذبذبات والتجاذبات بين الدول المصدرة للنفط والغاز من جهة والدول المستهلكة من جهة أخرى.
ومثل هذه التجاذبات تعكس جزءاً من التنافس الاقتصادي العالمي والتغيرات المرافقة له في الوقت الحاضر والتي يتوقع أن تؤدي إلى ضعف مواقع أقطاب اقتصادية كبيرة تقليدية وبروز أقطاب اقتصادية جديدة تعبّر عن موازين القوى الاقتصادية المستجدة في العلاقات الدولية، حيث تقاوم القوى التقليدية محاولات زعزعة مواقعها والقبول بالتغيرات الجارية، وذلك رغم أن بعض هذه القوى بدأت تعترف على استحياء بالواقع الجديد لاصطفاف مراكز القوى على المسرح الدولي.
وضمن هذا الاصطفاف القادم، فقد أصبح من الواضح أن بعض القوى الناشئة، بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي والهند، ستتزايد أهميتهما الاقتصادية إلى جانب دول أخرى تسعى لإثبات وجودها ضمن إعادة التمركز الاقتصادي في العالم والذي يتوقع أن تبرز ملامحه بصورة أوضح في السنوات القليلة القادمة.

*خبير ومستشار اقتصادي