في الأسابيع الثلاثة الماضية اتجهت أنظار العالم، ومنها أنظار الدول والبشر في العالم العربي وفي العالم الغربي إلى ما يجري من انتخابات في تركيا.
وكانت الأنفاس محبوسة خوفاً من حدوث انتكاسة سياسية في هذه الانتخابات نتيجة للاستقطابات الشديدة التي كانت تدور منذ ما قبل إجراء الجولة الأولى، ثم في العشرة أيام التي فصلت بين الجولتين.
تلك الاستقطابات كانت تدور أثناء الحملات الانتخابية المكثفة التي قام بها المرشحون جميعاً، لكن أبرزها ما كان يدور بين الرئيس رجب طيب أردوغان وكمال كليتشدار أوغلو وسنان أوغان لكسب أصوات الناخبين. لكن يبدو بأن الشعب التركي متمسك بشدة بالديمقراطية التي أوجدها لنفسه منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين بعد صراع طويل ضد المؤسسة العسكرية التي توالت على حكم تركيا منذ منتصف القرن العشرين نتيجة للانقلابات العسكرية المتتالية التي نفذتها واستولت نتيجة لها على السلطة السياسية.
انتخابات الجولة الثانية أسفرت عن فوز الرئيس أردوغان وجددت بقاءه في كرسي الرئاسة، لكن نحن في هذا المقام لا يهمنا كثيراً تفاصيل ما حدث فيها، وما يهمنا ما الذي سيحدث بعدها بالنسبة للسياسات التي سينتهجها أردوغان على صعيد السياسة الداخلية والخارجية، وما سيطرأ على مواقف تركيا تجاه العالم العربي وقضاياه المصيرية.
ما سيحدث في داخل تركيا سيكون للعرب فيه نصيب، وسيتعلق بما سيصطبغ به وجه تركيا من حيث كونها دولة إسلامية تقع في صلب الجوار الجغرافي للعالم العربي، وما قد ينتج عن ذلك من مواقف تجاه الدول العربية.
إن القضايا التي تهم العالم العربي وسيتعامل معها الرئيس أردوغان خلال السنوات الخمس القادمة جميعها شائكة، لكن يتوقع أن يلعب فيها أدواراً مفصلية كما يتضح من تصريحاته الأخيرة بعد فوزه، لكننا لن نستبق الأحداث.

بالعودة إلى نجاح الانتخابات الماضية أمامنا سؤالان: الأول، لماذا يحرص الأتراك على إنجاح العملية الديمقراطية بمجملها؟ والثاني، لماذا يقومون بتخصيص مقدار كبير من وقتهم وجهودهم للحديث حولها والعمل على ترسيخها؟ منبع السؤالين أنه في دولة لا زالت في صراع مع ذاتها حول قضية التقدم والتخلف، وتصنفها دول الغرب ضمن العالم النامي، يذهب ما نسبته تسعون بالمائة من أولئك الذين يحق لهم الانتخاب إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم؟ 

حقيقة أن ما يحدث ظاهرة ملفتة، لكن لمعظم الظواهر السياسية مسبباتها وخلفياتها.
وبالنسبة لتركيا من تلك الأسباب تجربة الأتراك بعد الحرب العالمية الأولى، حيث كانت الرغبة في بناء الدولة - الوطنية الحديثة جامحة بعد أن تعرضت الإمبراطورية العثمانية للهزيمة وتم تقاسم ممتلكاتها، وتعرضت تركيا ذاتها للهجوم من قبل اليونان.
ويعني ذلك أيضاً التوجه نحو إيجاد وسائل جديدة لحل مشاكل المواطنين الاقتصادية والاجتماعية.
لكن تلك التطلعات لم تتحقق، ودخلت البلاد في سلسلة من الحكومات العسكرية التي أفصحت عن تجربة سياسية لم توصل إلى الآمال المنشودة.
في بداية الأمر كانت الشعارات المطروحة هي القومية وبناء الدولة التركية وحرية المعتقد والتوجه نحو الغرب سياسياً واجتماعياً وبناء الاقتصاد على أسس رأسمالية والحرية الاقتصادية، وإقامة نظام ديمقراطي يرتكز على التعددية الحزبية، أي التوجه الكامل بتركيا نحو أوروبا في ثوب علماني.
لكن بعد الانتكاسات والتجارب القاسية التي عانى خلالها المنادون بالتغيير وبالحداثة، بدأت الأصوات تتحدث عن عودة تركيا إلى جذورها، مع التمسك الشديد بالديمقراطية، ويبدو أن هذا ما تريده أغلبية كبيرة من الأتراك، وتسعى للمحافظة عليه.
*كاتب إماراتي