مهما حاول الإنسان تجاوز «إملاءات الواقع»، إلا أنه لا يستطيع إهمال الرسائل الداخلية، النابعة من ضميره، ومهما غاير في استعمال «المرادفات»، إلا أن لـ«الحرية» وقعاً مرتفع القيمة، وقريباً من الإرادة المأمولة. فهل تتشابه صياغتها لدى الجميع؟ 
ما ظهر من مفارقات مفاهيمية في اعتبار بعض الظواهر «المستغربة»، كـ «التعري»، أو «الانتحار»، أو «قتل المختلف» لأي سبب كان، أشكال تعبيرية عن الذات والفكر، وحرية يُستَنكَرُ استغرابها، تقف على رأس التحرك الإنساني لإعادة قراءة ومدارسة موضوع الحريات بتزامن توالد التحديثات وتكاثر المظاهر الغريبة عن الحيز الأخلاقي ذي الارتباط بالحق الإنساني، سيما فيما تجذبه من تصرفات مغايرة حتى للشرائع السماوية. 

وهناك سياقات أخرى جرت بها الرسالة الحقوقية للإنسان بشكل قد يبدو نقيضاً في بعض سياقاته لماهية الحرية والأساس الذي انبنت عليه، وبخاصة أن سلوكيات تمثيل الحرية قد تبدو في كثير من ترجماتها انعكاس لرغبة إنسانية داخلية وملحة في الرجوع لـ«شفرة غريزية» تملي على النفس النزوع لتعبيره عن كينونته الحقة، والعودة لطور قديم جداً يحرره من كافة القيود والمحددات.
القيمة الحقيقية والجوهرية لمنظومة القوننة والتشريعات الدافعة نحو توفير بيئة حريات خصبة، عانت من تشققات في جدرانها تتمثل في التداعيات السلبية الخارجة عن التوقعات، وفي مبالغات ومخالفات قيمية، وتعمق لاهوتي بعيد عن تنظيم الوحي، فمكن الخطر أن الحرية باتت تعبيراً عن التملص من القيد الأخلاقي الإلزامي في كثير من الأوقات، كالتعدي على الآخر باسم الحرية، أو التسبب في إيذائه النفسي والوجداني، أو القفز عن التراتبية الاجتماعية ذات الصلة باحترام الوالدين، وكبار السن، وغيرها من المفاهيم التي لا تزال تعالج لحد يومنا هذا من حدود وتجاوزات، منها حقوق المرأة التي صار الأمر لاتهامها بالمغالاة والتضخيم لصور حرياتها من جانب ولإعطائها أحياناً مساحة لا تبقي ولا تذر للرجل شيئاً فترفع من صلاحياتها في ظل «قحط حقوقي للرجل» وفي ذلك الكثير من الحديث. 
وإذا كان أقرب ما يمكن التعبير به عن تلك الحرية هو قول الفيلسوف هيغل، بأنها: «نوع من التحديد الذاتي»، فإن ذلك يقف عنده الكثير من التساؤلات التابعة لاختلاف «معيارية» ذلك التحديد من شخص لآخر، بل إن التحديد بحد ذاته هو موضع الافتراق بين الناس الذي اتفقوا كافة بالأساس على ضرورة الإقامة الدائمة تحت مظلة الحريات، وهنا يتبع كل شريحة مجتمعية توجهها الفكري، فالفيلسوف يسبر في الذات كمشرع ومحدد للحريات، ورجل الدين يلتزم بالنص التشريعي، والسياسي يلجئ لما سنّه القانون، وهكذا، مما أدى لظهور وجه مختلف لتلك الحريات، واختلاف صورتها والحكم عليها بين مجتمع وآخر. 
وعلى ذلك، فإن المساحة القابعة بين صورة الحريات الأساسية الملامسة للحق الإنساني من جهة، وإفرازات التحرر المنبثق من الفهم المغاير لمعنى الحرية من جهة أخرى هي حالة لا بد من إحاطتها بتفسيرات وفهم لماهياتها ووضعها في سياق محدد ضمن تلك المنظومة الواسعة، لئلا تحيد وتخرج عن النسق «الحرياتي» ذي الارتباط الوثيق بالقيم. فالعالم اليوم يواجه موجة من التوجهات اللصيقة بـ«الحرية»، والتي لا بد من ترجمتها بوعي ضمن استراتيجية ثقافية وتوعوية وقانونية سامية على «الأهواء»، أو الاقتصار على التفكير بمساحة الفرد وتغليب ذاته على الكل. 

د. محمد البشاري 
أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة