هناك رهان كبير على تنشئة أفراد أسرة قادرين على الاستقلالية في الرأي وعلى تشكيل شخصية مكتملة ذات أسس قائمة على حرية الاختيار والتصرف تعبيراً عن كينونة الفرد في أي مكان وزمان. إن هذا التكوين ينتج عنه بناء «ثقافة حرية» مجتمعية مبنية على حاجة إنسانية حقيقية تتجدد كلما لامست قدرتَها على التصرف دون قيد، واتخاذ قراراتها الخاصة، لا سيما الحاسمة منها في معترك الحياة. لكن هل يعني ذلك حرية الإنسان؟ وهل يكفي ليكون الإنسان نفسه حراً؟ وهل هو متمتع عملياً بهذا الحق أم أنه يسرح في وهْم مجرد؟ 

شُغِل الفلاسفةُ بهذه التساؤلات، لا سيما في المدارات المحيطة بكل من لفظي «الإرادة» و«الحرية»، وغيرهما من المصطلحات ذات الصلة مثل: سلوك، وأخلاق، ومسؤولية. ويرى بعضهم أن الحرية مقيدة والإرادة الدافعة للسلوك البشري ملجمة بحزمة دائمة ومتجددة من الأخلاقيات المؤطِّرة، والتي لا يمكن تجاوزها، إذ تحوط الرغبة بالتصرف الحر مجموعةٌ من المحددات الإلزامية، فإما أن يكون ذلك الإلزام أخلاقي، متصل برغبة اجتماعية واسعة، وإما أن يتعلق بملزمة تشريعية من المصدر الروحي، وإما أن تكون هذه الإلزامية محاطة بحصانة قانونية متينة. كما اتجه فلاسفة آخرون لاعتبار الحرية وهمٌ مِن صنع الإنسان، بفعل البيئة التي تحيطه، مثل دوركايم الذي يقر بأن الفرد نتاج لصنع المجتمع، لذا فهو لا يمتلك حرية «العزف» خارج سرب القانون الاجتماعي، أي أنه خاضع للحتمية الاجتماعية، وهي الفكرة التي أثارت جدلاً على الصعيدين الفكري والديني، كونها تجرِّد الإنسانَ من أي قدرة على الاختيار. وفي حين يتجه المذهب الجبري لاعتبار الإنسان «ريشة في مهب الريح»، يرى فلاسفة غربيون ومسلمون نقيض ذلك. لكن إذا ما أمعنَّا النظر في السلوك الاختياري للفرد، والذي لا يندرج تحت الأمور الفطرية، وقارناه بالإرادة أو مستوى تحكم الإنسان فيها، فهل يمكن اعتبار إرادته مجردة؟

وإن كان كذلك، فما مبرر كل الأمور التي تقع خارج نطاق سيطرته رغم صلتها المباشرة به، مثل ظروف ولادته وتكوينه، واختيار البيئة التي عاش بها، والمدرسة التي تلقى تعليمه فيها.. إلخ؟ إن تحقيق الحرية «المطلقة» في ظل القيد الديني والاجتماعي والقانوني، وإطلاق الحرية وفتح بابها عل مصراعيه، كل ذلك أمر بعيد عن الغاية الإنسانية، بل قد يتأطر في صياغة جديدة تعود عليه بالضر أكثر منها بالنفع. مفهوم الحرية يحتاج لتوضيح وتفصيل، حتى لا نَحرم المرءَ حقَّه ولا نجعل منه يداً تبطش بدل وظيفتها الخيّرة على هذه الأرض، وذلك تصديقاً لقوله تعالى في محكم كتابه: «إن السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسئولا».

وعند الحديث عن وجود تقييد للحرية، فالقصد هو تقييد الحرية بمعنى التملص والانفلات من كل ما هو مقبول في ميزان العقل ومراتب النفس، وبذا فالحرية التي يتمتع بها الإنسان هي بالسلوك والتفكير والقول طالما لا تتعدى على الآخر، ولا تؤدي لإضرار بالغير، وبالتالي يمكن اعتبار الحرية نوعاً من «القرار الشخصي»، خاصة إذا ما تم بناؤه بشكل صحيح وإيجابي ومسؤول، أي بعيداً عن تشوهات الفهم.

الحرية لا تعني التحرر والتخلي عن كافة القيود «الإلزامية»، ولا تعني التمردَ ولا التحللَ من شروط ومحددات المسؤولية الإنسانية تجاه الذات والغير، بل هي عمل مسؤول توجهه تصورات فكرية وأخلاقية أصيلة كسلوك حرٍ واعٍ ومسؤول.. وكل ما خالف ذلك من محاولات فرض «حرية مطلقة»، فهو «حرية مستحيلة» في عالم يطمح للأفضل. وربما نستطيع أن نخلص إلى أن القول السائر «حريتي تنتهي عندما يبدأ حق الآخر»، لا بد أن يسبقه القول بأن للحرية بداية لا تكون إلا بنهاية الجهل.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة