تنحل كلمة الخطأ ومشتقاتها في اللغة العربية إلى الجذر: الخاء والطاء والهمزة، فإذا تعلق هذا الجذر بمعنى إرادة القبح وفعله كان خطأ تاما، وإذا تعلق الجذر بمعنى إرادة الشيء ووقوع خلافه كان أدنى مرتبة من الأول، واستعمل له فعل أخطأ، وقد حَلَا للعربيِّ أن يُلم بهذه المعاني كلها من خلال لعبة كلمات فقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب، وأخطأ الصواب.وعندما نتأمل حضور هذا الجذر في القرآن الكريم، نجده حضر في ثمان صيغ، هي الخطأ، والخطء، والخاطئ، والخاطئة، والخطيئة، والخطيئات، والخطايا، وأخطأ.

أما عدد ورود هذه الكلمات المتعلقة بالجذر الخاء والطاء والهمزة فلا تتجاوز اثنتي وعشرين مرة، وهو عدد ضعيف إذا قورن بكلمات القرآن الكريم، لكن مفهوم «العمل الصالح» من أكثر المفاهيم ترددا وحضوراً في القرآن، وكأنه يدعو إلى التركيز على العمل الصالح أكثر من التركيز على اجتراح الخطأ.

يبرز لنا العلم المعاصر أن الواقع ليس واقعاً معطى، بل هو واقع يبنيه الإنسان، فما نقيم فيه هو الواقع كما نصنعه نحن، ومن هنا أهمية الحكمة العملية في تشكيل الواقع، ولهذا السبب تتعدد عوالمنا لأنها ليست عوالم مباشرة، فليس للحق واقع متعين في واقعة ما إلا ما يحكم به القانون. الخطأ يسهم بقوة في تشكيل رؤيتنا للعالم سواء في شكله السلبي أو في شكله الإيجابي، في شكله السلبي باعتباره مخالفة لقاعدة، وإن بلغت هذه المخالفة أن أصبحت شرا، تمت مقاومتها بكل الأشكال حفاظا على جوهر الإنسان بما هو كائن خيّر.

وفي شكله الإيجابي باعتباره شرطا للحقيقة، مادامت الحقائق ليست سوى أخطاء يتم تصحيحها. يقدم الإسلام الخطأ باعتباره المهماز الأول لحركة الوجود الإنساني، فهو من جهة «غواية» حلّت بآدم، وهو من جهة أخرى قدر رباني لتحقيق الإرادة الإلهية في خلافة آدم المرسومة، كما يفهم من قصة احتجاج آدم وموسى الشهيرة، بل إن الأخطاء الأُوَّل، خطأ إبليس النّاتج عن الكبر والغرور، وخطأ آدم الصّادر عن الغفلة والنسيان، وخطأ قابيل المنبعث عن الغيرة والحسد، كلها أخطاء ترتبت عنها قضايا مصيرية في الوجود الإنساني.

الخطأ أحد موجودات العالم الإنساني، فضلاً عن أن الاعتراف به وتقبله هو الشّرط الأول لتأسيس مفهوم التسامح: إن الخطأ هو أحد موجودات العالم لأنه رافق الوجود الإنساني منذ انطلاقه، ولولا الخطأ ما انطلق الوجود الإنساني على ظهر هذه البسيطة، ولولا الخطأ لما انطلقت مسيرة العلم النظري ولما أدركت البشرية بُغْيتها الحضارية من تراكم المعرفة العلمية عبر تاريخ العلم وتصحيحها. ثم إن الاعتقاد في هشاشة الكائن البشري وكونه معرضا للخطإ، بل الاعتقاد أن الخطأ قدره، إذ كل ابن آدم خطاء، والسعي المستمر إلى التصالح مع ذاته هو الشّرط الأولي للتأسيس الأخلاقي لفعل التسامح.

الخطأ مُحرّك الحياة، ولا حركة في هذه الحياة إلا بصراع الأضداد، أو ما سمّاه القرآن الكريم بـ «التّدافع»، تدافع الخطأ والصواب في العلم والعمل. ومن هنا اعتبرنا الخطأ أحد موجودات العالم، وأحد الأسباب الضرورية لتحقق الماهية الإنسانية، وأحد الشروط الضرورية للتعايش الإنساني من خلال الاعتراف بالمختلف. ولعل ها هنا تكمن فلسفة الخطأ.

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.