بالنسبة لتخفيض سعر صرف الدولار في السياسة النقدية يبدو بأن الإدارة «الديمقراطية» الحالية في الولايات المتحدة الأميركية اختارت أسهل الأمور من وجهة نظرها بالسماح لوزير الخزانة باتباع سياسة تخفيض سعر صرف الدولار والدفع بأسعار السلع المصدرة نحو الانخفاض، وجعل البضائع المستوردة أعلى سعراً في الداخل.
بانخفاض سعر صرف الدولار بهذه الطريقة تصبح العملية لا تخلو من كونها مُضاربة نقدية خطيرة، لكن من وجهة نظر من يقف وراءها هي أمر له ما يبرره من زاوية أن سعر صرف الدولار مقابل العملات الأخرى يجب أن يتراجع.
وفي تقديري أن خلافاً حول السياسات المالية والنقدية قد ينشأ، وقد تنقلب هذه السياسة ضد المنادين بها حالياً، وهذا الخلاف قد ينشأ لو أن المسؤولين الكبار في هيئة الاحتياطي الفيدرالي وقفوا موقفاً مغايراً، وذهبوا إلى أنه يجب حماية سعر صرف الدولار عوضاً عن تخفيضه.
هذا الموقف من قبل هيئة الاحتياطي الفيدرالي متوقع، وقد حدث في السابق عدة مرات في تاريخ الولايات المتحدة القريب، وهو موقف شبيه بمواقف دول الاتحاد الأوروبي، إذ يتم النظر إلى وجود عجوزات في الموازين التجارية للدول ليس بالأمر المعيب أو الكارثي، وبأن الاقتصاد يمر حالياً ببداية انتعاش في مرحلة ما بعد «كوفيد- 19»، وبأن مشتريات الولايات المتحدة من حلفائها وشركاتها ستساعد الدول على زيادة صادراتها، وبالتالي إنعاش اقتصاداتها والخروج من مرحلة الركود.
وهنا يتوقع الخبراء أن تبدأ الدول فور تخطيها لأزماتها بزيادة وارداتها من الولايات المتحدة ما سينتج عنه تخفيض العجز في الميزان التجاري الأميركي، بمعنى أن ما تتم الدعوة إليه من قبل دول أوروبا والدول الحليفة للولايات المتحدة حول العالم هو ألا يتم التصرف من منطلقات فردية قصيرة الأمد، وأن يتم النظر إلى المصالح بشكل جماعي، وألا يتم تفويت الفرص السانحة لإنقاذ الاقتصاد العالمي ككل من الركود الذي يمر به حالياً.
وما يحتم اتخاذ مواقف اقتصادية أكثر مرونة، هو أن الفترة القصيرة الماضية شهدت تراجعات اقتصادية في دول الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا التي كانت أوضاعها الاقتصادية متماسكة نسبياً، لكن في الآونة الأخيرة انخفضت معدلات الإنتاج الصناعي في هذه الدول بنسب ملحوظة في نفس الوقت الذي ارتفع فيه الأداء الاقتصادي في الولايات المتحدة بنسب ملحوظة.
لكن هذه الأنشطة لا تجعل من راسمي السياسات الاقتصادية في الولايات المتحدة مقتنعين بقوة اقتصاد بلادهم، فيرون بأنه لا غضاضة في أن يحدث عجز في الميزان التجاري لبلادهم، لكن على حلفائها الأوروبيين واليابانيين وحول العالم رفع أسعار عملاتهم في مقابل الدولار لكي ينخفض الفائض في موازينها التجارية الخارجية وتستفيد من ذلك الدول الأخرى التي هي في حاجة أكبر إلى تنشيط صادراتها.
المسؤولون في الولايات المتحدة ينظرون إلى المسألة من زاوية أن خفض سعر صرف الدولار هو بمثابة رسالة تحذير إلى عدد من الدول لدفعها إلى مزيد من المرونة في مجال النقد والتجارة الخارجية.
يمكن القول بأن موقف الولايات المتحدة فيه رغبة لخلق توازن في المسؤوليات الدولية لأن عدداً من دول العالم القوية اقتصادياً لديها مسؤوليات لا بد وأن يتحملها تجاه الاقتصاد العالمي ودول العالم الأخرى، ويفترض بها لعب أدوار التنشيط اقتصاداتها.
ويلاحظ أيضاً بأن موقف الولايات المتحدة يتضمن محاذير من زيادة حجم المنافسة التجارية التي تشكلها ضدها دول منها الصين واليابان ودول الاتحاد الأوروبي ودول ما يعرف بالنمور الآسيوية؛ ورغبة في الاستفادة القصوى من انتعاش الاقتصاد في الداخل لتحقيق مكاسب ومصالح على المنافسين التجاريين.
والحقيقة أن المنافسين يدركون مغزى سياسات الولايات المتحدة الاقتصادية. ويأتي ذلك من كون مواقفهم متشابهة في ردود أفعالهم المعارضة تجاه خفض قيمة الدولار. لا يمكن النظر إلى انخفاض سعر صرف الدولار بأنه القول الفصل لسياسة الولايات المتحدة المالية والنقدية، ويتوقع لها الاختيار بين مشاريع مختلفة تخرج العلاقات الدولية التجارية المتعثرة من الإرهاصات التي تمر بها حالياً.
*كاتب إماراتي