بين محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام نسب عريق من الحكمة والرّشد، فضلاً عن النّسب البيولوجي الذي يمتد إلى الذّبيح عليه السلام.

وُصف إبراهيم بالرّشد، ووُصف محمّد بمعلّم الحكمة، ومعلّم الحكمة حكيم، ولا حكيم إلا من بلغ تمام رشده. وجَعْلُ القرآن إبراهيم ومحمد حاملي مشعل الرّشد والحكمة أضاء طريق الحكماء، وجعل لهم موئلاً يَعُوجون إليه كلّما ضلّت بغيرهم السّبل. حيث وجدنا الكندي، أول فيلسوف عربي في الإسلام، عند الخصومة في حكمة النّبي ورشده ينبري مدافعاً بقوة: «إن كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم موجود بالمقاييس العقلية التي لا يدفعها إلا من حُرم صورة العلم واتّحد بصورة الجهل». وعندما قام بعض من يدّعي الحكمة بإنكار النّبوّة، انبرى لهم الفارابي وأسس نظرية فلسفية بديعة في النّبوة لإفحام الخصوم، وطابق فيها بين النّورين الطبيعي والإلهي، وحاجَّ أن حكمة الفلاسفة وحكمة الأنبياء، تخرجان من مشكاة واحدة.

وعندما أراد ابن رشد أن يحاجّ في النّبوة لم يجد غير الشّريعة دليلاً على نبوة نبيّنا الكريم، حيث إنّه لا يستطيع عقل بشري، مهما أوتي من الرّشد وعلا في معراج الحكمة، أن يأتي بمثل تشريع محمد، مما يدل على أنه عليه السّلام يتلقّى المدد الإلهي، بالرّشد والحكمة، في كل التّشريعات التي جاء بها.

كانت حياة الخليل عليه السلام تنطق بالرّشد، يُجلِّي ذلك متابعتُه النّظر في ملكوت السماوات والأرض، ومُحاجّته للنّمرود. بل إن رشد إبراهيم عليه السلام لم يحل بينه حائل، من خوف أو خجل، والسؤال الذي يزيد حكمته نوراً، فهو لم يقنع إلا بيفاع الاستبصار حيث الحقيقة رأي عين، وهو يسأل ربه عن الحياة الأخرى، فيدخله ربّه مختبر التجربة العملية ليحضر تجربة الحياة والموت، حتى يشهد عين اليقين علما سمعهُ، فيطمئن قلبه.

ولم يكن محمد عليه السلام بعيداً عن هذه المعاني الجليلة، فقد كان أشدّ قومه رشداً في صغره وفي كبره، وكان بذلك يتهيأ، على عيني ربه، للنّبوة. واحتكامُ القومِ إليه عندما اختصموا في الحجر الأسود، برهان على رشده وحكمته. وتحنُّثُه في غراء حراء، الأيام واللّيالي ذوات العدد، هو والملكوت ولا أحد غيرهما، برهان على قوة عقله المعدّ للحكمة المتعالية.

ولعل هذه الحالة هي ما ترجمها قوله تعالى: {قل إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا} على وقْف من وقَف هنا. حيث أصبحت الدّعوةُ إلى التّفكير مدارَ الخطاب النبوي، إذ بالتّفكير السّليم الخالص تنجلي الحقائق، وتذهب الشكوك، وتتلاشى الأوهام. وقد كانت رسالة النّبي الكريم كثيراً ما تنبّه على ذلك، من طرف خفي، عندما يَسْأل النّبي وينتظر الجواب، أو يُسْأل ويجيب بسؤال، وليس مثل السّؤال إثارة للفكر وتحريضاً على إدراك الحقيقة وقبولها.

والأمثلة في السّيرة النبوية على رشد النّبي الكريم وحكمته كثيرة، ولعلّها بلغت شأوها عندما علّم امرأة مسلمة منهج القياس. لقد جمع الله لنبيّه الكريم، حين وصفه بـ«الخُلق العظيم»، كلّ الفضائل العقلية والفكرية، لأن الخلق العظيم هو الكمال الأقصى لكل رشد وحكمة، وهذا مكمن تفرّده صلّى الله عليه وسلّم، وعلو مزيّتِه في الخافقين.

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.