«نانسي فرازر» فيلسوفة أميركية معروفة بأعمالها الفكرية الهامة حول العدالة الاجتماعية من منظور حقوق المشاركة والاعتراف. وفي هذا السياق، نشرت مؤخراً كتاباً هاماً بعنوان «الرأسمالية التي تأكل لحم البشر» (Cannibal capitalism) طرحت فيه الإشكالات المعقدة للاقتصاد المعولم في سياق الوضع الراهن للمجتمعات الإنسانية. ليس نقد الرأسمالية جديداً في الفلسفة السياسية، وقد تمحور سابقاً حول نظرية ماركس في «تراكم الرأسمال» المتولد عن الثورة الصناعية وما يقوم عليه من استغلال قوة العمل لمضاعفة الإنتاج والأرباح، بما يؤدي إلى أزمات بنيوية ستقود حتماً إلى تقويض المنظومة الرأسمالية من داخلها حسب ماركس.

وقد طورت النظريةُ النقديةُ لدى مدرسة فرانكفورت، وبصفة خاصة لدى رائديها «آدورنو» و«هوركايمر»، نقدَ الرأسمالية في سياق جديد هو أثر التقنية بصفتها مشروعَ سيطرة وهيمنة على المجال التواصلي والقيمي البشري الذي فقد رمزيتَه الإدماجية وفاعليتَه المعيارية. ومن الواضح أن النظريةَ الليبرالية الجديدة سعت إلى تجاوز هذا المأزق من خلال استيعاب قيم المساواة والتضامن في صلب منظومة الحقوق والحريات.. إلا أن الإشكالات الراهنة لديناميكية العولمة قادت أحياناً إلى نقد الرأسمالية من منطلقات مغايرة، بما نلمسه في كتاب فرازر المذكور.

ولا بد من التنبيه هنا إلى أن عبارة «أكل لحم البشر» تحيل إلى اتهامات الاستعمار الأوروبي لما كان يسميه «الشعوب البدائية المتوحشة»، وقد استخدمتها المؤلفة عن قصد للتعبير عن الوضعية الحالية للرأسمالية التي اعتبرت أنها تقوض النظام الاجتماعي للإنسانية من الداخل وتهدد مصير الكائن البشري بالكامل. وفي هذا الباب، تلاحظ فرازر أن مفارقة الرأسمالية الراهنة تكمن في أنها تحتاج إلى سياق اجتماعي ومدني ملائم يكفل لها الاستقرار والرفاهية، في حين أنها في منطقها الغائي تنتهي إلى تدمير هذا السياق الناظم الذي تحتاج إليه في قيامها وتطورها.

وللتدليل على صحة هذه الأطروحة تقف فرازر عند بعض مظاهر هذه المفارقة، مثل تشجيع مشاركة المرأة في الحقل الاقتصادي وسوق العمل، في الوقت الذي تتزايد الضغوط على الدول من أجل التخلي عن سياساتها الاجتماعية التي تكفل مصالح وحقوق النساء في النسق المجتمعي.

والأمر ذاته يَصدق على تسيير حركية النقد المالي من خلال توجيه السيولة النقدية إلى قطاعات المديونية المصرفية والمضاربة الواسعة، بدل تسخير هذا الفائض المالي لدعم المصالح والخدمات الاجتماعية. ومن هنا نشهد انحسار الأطر المشتركة التي تضمن التوافق والانسجام الاجتماعي، بما يَظهر في انهيار الثقة في النخب الحاكمة وفي القطاعات المركزية للدولة، وفق ما أطلقت عليه فرازر تبعاً لغرامشي «أزمة الهيمنة» وما يترتب عليها من صراع السرديات السياسية حول ثنائية الشعبوية والليبرالية. وإذا كانت نانسي فرازر تتبنى أطروحةَ «التداخل القطاعي بين مجالات الغبن الاجتماعي» السائدة حالياً في أوساط اليسار الأميركي، فإنها تَظل وفيةً للإشكالات الفلسفية التي طرحتها نظريةُ العدالة ضمن السياق الليبرالي الجديد.

وتدور هذه الإشكاليات حول مبدئين أساسيين هما: المشاركة بصفتها المقياس الصحيح لتقويم النظم الديمقراطية وليس الآلية الانتخابية الصورية، والاعتراف الذي هو المخرج من مخاطر استبدادية الأغلبيات المنتخبة التي تظل منزلقاً ملازماً للممارسة الديمقراطية. ما تنتقده فرازر في المرحلة الراهنة من الرأسمالية المالية المعولمة هو أنها تقوض إمكانات المشاركة والاعتراف، بإخراج الحقل السياسي التداولي من منطق التبادل المنحصر في العوامل الاقتصادية البحتة، وبتقليص دائرة الاعتراف إلى الحقل القانوني الضيق.

لا شك في أن نانسي فرازر وجّهت النظر بصفة دقيقة إلى بعض الإشكالات المحورية التي يطرحها تطور الرأسمالية الاقتصادية في العالم اليوم، وهي محقة في تشخيصها الجريء، بيد أنها لم تنتبه إلى الفروق الجوهرية بين الرأسمالية الصناعية الأولى القائمة على الاقتصاد المادي والسيطرة الاستغلالية للطبيعة وبين الرأسمالية المالية الراهنة المرتكزة على الذكاء الاصطناعي وثورة المعلومات والاقتصاد غير المادي (اقتصاد المعرفة).

وبقدر ما أن الرأسمالية الجديدة تطرح تحديات غير مسبوقة على نظم الاندماج الاجتماعي، كما لاحظت فرازر وآخرون، فإنها تدشن آفاقاً رحبةً للتشاركية والكونية التبادلية من منظور ليس بالضرورة متوحشاً واستغلالياً، كما بين أنتوني نغري ومايكل هاردت في ثلاثيتهما الإمبراطورية والجمهور والكومنولث. وحاصل الأمر، أن النقد الماركسي التقليدي لرأسمالية القرن التاسع عشر لم يعد له دلالة اليوم، بالنظر للتغير الهائل الذي حدث في البنيات التقنية والصناعية للاقتصاد العالمي، ومن ثم فإن مقاربة نانسي فرازر، على أهميتها، تظل محدودةً وقاصرةً في تفسير ظاهرة العولمة الرأسمالية.

*أكاديمي موريتاني