الأوهام بلاءٌ وحين تتحول إلى صناعة محترفةٍ تتبناها وتروجها وتسوّق لها بعض النخب تتحول إلى وباء، ولكنه وباءٌ يصيب العقول وهو أخطر من أوبئة الأجساد بكثير، بحيث يصبح من المستحيل أن ينجو المصاب به إلا بجهدٍ جهيدٍ وعملٍ دؤوبٍ وشاقٍ وإخلاصٍ في التضلع من العلم وبناء العقول.

بعيداً عن أمجاد الماضي التليد ومفاخر العرب المستحقة، فإن العرب في هذه اللحظة التاريخية أمةٌ لا تحتل مراتب متقدمة في العلم والحضارة، وإدراك هذا يمنح المحاولات الجادة للدول والأفراد لنشر العلم وترقية الوعي ضمن خطط متكاملة وممتدة كل التقدير الذي تستحقه.

يجترّ كثيرٌ من العرب اليوم طروحاتٍ وأفكاراً كانت سائدة في عصور الظلام والانحطاط حين أفلت شمس الحضارة وانتشر فقهاء التطرف ووعاظ التخلف، وبدل التفنن في العلوم والتوسع في الترجمات والتضلع من الفلسفات ساد التخلف بتحريم العلوم ورفض الترجمات وتكفير الفلسفة والفلاسفة، ومن السهل لمن يستجلب تلك الخطابات أن يروجها لدى العامة والجماهير وعبر وسائل التواصل الاجتماعي.

منطقة الشرق الأوسط منطقة أزماتٍ مستحكمةٍ، وهي تحتاج للخلاص منها رؤى محكمة ومتماسكة وإعادة ترتيب للأولويات الكبرى وهندسة جديدةً للمجتمعات ومؤسسات بناء العقول والأجيال، وكل محاولات التجديد الصادقة التي تقوم بها دولٌ أو أفرادٌ تواجه بالرفض والتشويه والمحاربة، لأن خطيباً مفوّهاً يستطيع الرد على فيلسوفٍ، وشاعرٌ مفلقٌ يستطيع التقليل من مفكرٍ، لأن التهييج العاطفي والتحشيد الجماهيري أهم لدى كثيرٍ منا من التفكير المنطقي والعقلانية المتزنة والواقعية السياسية.

في الأزمات الكبرى التي مرّت بها المنطقة في العقود الأخيرة، يمكن بسهولة استحضار أي واحدةٍ منها وتقليب ردود أفعال بعض النخب منها، ليجد الباحث تفشياً لطبقةٍ من الدجّالين والمرتزقة والأفاقين الذين يقدمون لعامة الناس جهلاً مركباً ويصنعون لهم أوهاماً مستحيلةً ويقنعون المتلقي بأنها حقائق ناصعة، وهذا تزييفٌ مكتمل الأركان للوعي وعن سبق إصرارٍ وتعمّد.

هؤلاء الذين يبحثون في كل أزمةٍ عمّا «يطلبه المستمعون» وعمّا يرضي الجماهير والغوغاء، ويسابقون الفنانين والرياضيين على الشهرة والمتابعين، لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن ينشروا علماً أو ينيروا وعياً أو تترقى على يدهم الأجيال وتتفتح العقول، وهم يتفشون في الأزمات كوباء خطيرٍ ينشر وباء الوهم لدى الكافة.

وبعيداً عن الحكماء والعقلاء وهم قلةٌ، فإن بعض صنّاع الوهم هؤلاء لا يمتون للوعي والعقل بأي رابطٍ، وقصارى غايتهم الارتزاق من هذا الطرف أو ذاك، وتسويق أزماتهم النفسية والعاطفية والمعيشية، عبر تخريب الأذهان والترويج للشعارات الرنانة والمزايدات الجوفاء، رغبةً في مصالح شخصيةٍ ضيقةٍ وصغيرةٍ جداً.

طبيعة الأزمات أن تكون ساخنةً ومعقدةً، وكم سيستفيد منها أي إنسانٍ لمعرفة الصادق من الكاذب والعاقل من الجاهل والمخلص من المرتزق، فقط عبر التدقيق في الأفكار المطروحة والمواقف المعلنة والغايات المرجوة من كل طرحٍ وفكرٍ وموقفٍ، ومحاكمتها للحدث نفسه بعقلانية مجردةٍ وواقعيةٍ باردةٍ، وحينها سيكتشف الإنسان بسهولةٍ صنّاع الوهم ومزيفي الوعي والمتكسبين من الأزمات، وسيحمد هذا الاكتشاف في ما يليه من أزمات.

«غزو صدّام للكويت» 1990 أزمة كبرى تكشف فيها زيفٌ كثيرٌ، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 الإرهابية أزمةٌ كبرى تكشف فيها زيفٌ آخر، و«الربيع العربي» الأسود 2011 أزمةٌ كبرى تكشفت فيها زيوفٌ من أشكالٍ وأنواعٍ متعددةٍ، وتفشى فيها صنّاع الأوهام وغرروا بالجماهير وشتتوا العقول وأدخلوها في التيه الفكري سنواتٍ، والبعض لم يستطع الخروج من تلك الزيوف وذلك التيه. أخيراً، فلن تنهض أي أمةٍ ما لم تتخلص من صنّاع الأوهام وتطوي صفحتهم وتلحق بصناع العلم والوعي والحضارة.

*كاتب سعودي