مع استمرار المواجهات في حرب غزة، وعدم وجود أفق حقيقي للحل انطلاقاً من قاعدة رئيسة مرتبطة بعدم توافر الإرادة السياسية للحل، وتكريس مفهوم استخدام القوة الممنهجة، والاتجاه إلى تبني خيارات تصعيدية، فإن ما يجري من وقائع، وتطورات يؤكد أن القوة عادة لاتحسم كثيراً من المواجهات الراهنة، وهو ما جرى من قبل في الحرب التي باتت منسية في أوكرانيا مع العمل على حل المواجهات، وتحقيق المصالح باستخدام القوة مع المضي في توظيف القدرات العسكرية لتحقيق الأهداف المحددة، وهو ما جري في الحالة الروسية الأوكرانية، ونجاح الجانب الروسي في تكريس استراتيجية الأمر الواقع بضم المناطق الأربع إلى الفضاء الروسي من خلال التعريف العام للأمن القومي الروسي في مناطق ارتكازه، وهو ما يفعله أيضاً الجانب الصيني باعتبار أن منطقة بحر الصين الجنوبي منطقة حضور استراتيجي تتطلب الدفاع عنها باستخدام كل الوسائل، وبالعتاد العسكري المطلوب.

وفي الحرب على غزة ما تزال إسرائيل تعمل على خيارات القوة، وستفرض ترتيبات أمنية في عمق القطاع بصرف النظر عن إطارها وسواء تم تقليص القطاع، أم بقي في وضعه الراهن – وهو أمر مستبعد - فإن إسرائيل ستمضي في تكريس استراتيجية القوة، وفرضها على الضفة والقطاع معاً الأمر الذي سيؤدي لمزيد من التعقيد في الإقليم، وخارجه وتحريض الوكلاء الإقليميين على المضي قدماً في تأكيد حضورهم في المشهد، وهو ما يجري من قبل الفصائل الوكيلة في اليمن والعراق وسوريا، مما قد يؤدي بالفعل إلى وقوع أحداث غير مسؤولة في الفترة المقبلة أو مواجهات على طريق الخطأ، وكما جرى في استهداف الولايات المتحدة وبريطانيا مراكز تتبع الميليشيات «الحوثية»، ومما سيؤدي إلى مزيد من التصعيد.

ولعل تحذير وزير الخارجية الأميركي أنطوني بيلنكن من أن فرص التصعيد في الإقليم واردة، وأن هناك بالفعل تخوفاً من مواجهات إقليمية قد تؤدي إلى حرب عالمية أو حروب ما زال قائماً، يشير إلى نزاعات ممتدة قد تنذر بالخطر في الفترة المقبلة مع اندلاع المواجهات في آسيا، ودخول ايران على الخط، واستهدافها عسكرياً، جماعة «جيش العدل»، وهي مجموعة تصنفها طهران بالإرهابية، وتتهمها بالعمل من قواعد في باكستان إضافة لما جرى في إقليم كردستان العراق، وتجمعات لتنظيم «داعش» في سوريا، ما قد يؤدي لتوتر عام متصاعد في الشرق الأوسط.

وهناك مخاوف مستمرة من نشوب نزاع إقليمي شامل على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل، و«حماس»، ويذكي من توتر الأوضاع في الإقليم ومناطق التماس دخول القوى الكبرى على الخط خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، وفرنسا، ودول في الاتحاد الأوروبي ما يؤكد أن استخدام القوة بات قائماً ومطروحاً، ويتم تعميمه من نزاع إلى آخر، وفي ظل فشل الحل السياسي بالفعل، وعدم وجود فرص للتهدئة، وعجز الأمم المتحدة وأمينها العام على التدخل وفقاً لنص المادة 99 لصلاحياته التي خولها له النظام الأساسي، والتي عملت الولايات المتحدة على افشال كل خطواته التي سعى فيها للتهدئة في الإقليم محل النزاعات، وليس فقط في الشرق الأوسط فقط..

ما يجري في المنظومتين الإقليمية والدولية يؤكد أننا في اتجاه التصعيد في حسم الصراعات الساكنة والمتصاعدة، وفي إطار عالم جديد متعدد الأقطاب، وفي ظل خيارات تدعو لتكريس مفهوم القوة بالفعل خاصة مع استمرار عدم وجود مقاربات حقيقية للتهدئة، أو اللجوء لأنصاف الحلول كمقاربة ولو مؤقتة، وفي ظل ما يجري من تطورات مفصلية في الشرق الأوسط، وفي منطقة جنوب شرق آسيا حيث صراع الأقطاب الكبار مع الإمعان في تكريس سياسة استراتيجية الأمر الواقع، التي تحتاج أحياناً إلى تعاملات خارج السياق التقليدي، وهو ما يجب الحذر من تأثيراته التي قد تذهب إلى صدامات أكبر، كما يجري في حرب غزة في الوقت الراهن، وامتداداتها التي قد تشمل دولاً أخرى في الإقليم، وتحرك الوكلاء الإقليميين للعب دور مركزي في تحريك المشهد غير المستقر، والذي قد يحتاج إلي مراجعات في السياق الجاري.

في كل الأحوال، فإن تراكم تلال النزاعات الراهنة ربما يؤدي إلى حالة من السيولة العسكرية والتباينات السياسية والاستراتيجية في ظل حالة من التأهب لدى القوى الدولية لإقرار الحلول، وتبني السياسات من أعلى وبتوظيف خيار القوة مما قد يؤدي بالفعل إلى حروب متعددة الأطراف تتشابك فيها المواقف، وتتعدد فيها التوجهات الأمر الذي قد يؤدي إلى مزيد من الصراعات الجديدة مع استمرار حرص أطرافها على تحقيق أهدافهم في المديين القصير والمتوسط الأجل.

*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.