كتبت هذه السطور قبل ساعات من الموعد المنتظَر لتبادل الأسرى وانعقاد قمة شرم الشيخ للسلام التي يُفترض أن تكون قد وضعت اللمسات الأخيرة على اتفاق إنهاء الحرب في غزة، وبمجرد إنجاز الاتفاق على تنفيذ المرحلة الأولى من الخطة ووقف إطلاق النار، وانسحاب الجيش الإسرائيلي إلى خطوط جديدة وبدء دخول المساعدات، ساد ارتياح عام بين الأطراف كافة التي روّعها حجم الكارثة الإنسانية غير المسبوقة في غزة، على الرغم من بعض جوانب الغموض في الخطة.
وكان مبعث الارتياح بالتأكيد هو وقف إراقة الدماء الفلسطينية وبدء دخول المساعدات للتخفيف من الآثار المأساوية للمجاعة، غير أنه جنباً إلى جنب مع الشعور بالارتياح بدأت الأفكار تتوالى حول المستقبل، وفرص صمود الاتفاق، وإبداء المخاوف من حدوث انتكاسة قد تعيد الأمور سيرتها الأولى، والأمل في ضمانات تحول دون ذلك.
وأول مصدر لهذه المخاوف هو تفاصيل التنفيذ التي كان بدهياً أن تغيب عن الاتفاق لتسهيل سرعة التوصل إليه، فحديث التفاصيل يكون دائماً مليئاً بالشياطين التي يمكن أن تتسبب في عرقلة التوصل إليه أصلاً أو تنفيذه بعد إعلانه، وتزداد خطورة عامل التفاصيل بسبب الحساسية الشديدة التي تنطوي عليها بعض بنوده.
ويكفي التذكير بتفاصيل التزامن بين نزع سلاح الفصائل الفلسطينية والانسحاب الإسرائيلي، بل وتفاصيل الكيفية التي ستتم بها هذه العملية في ضوء التناقض بين التصريحات الإسرائيلية وتصريحات «حماس» في هذا الصدد، وكذلك التذكير بإجراءات تسليم السلطة من «حماس» للكيان الجديد الذي سيحكم غزة وهكذا، أما المصدر الثاني للمخاوف فهو الخبرة الإسرائيلية في التعامل مع اتفاقات سابقة، سواء كان نطاقها عاماً كاتفاقية أوسلو 1993، أو خاصاً كاتفاقيات وقف إطلاق النار التي وُقعت بين إسرائيل وكل من المقاومة في غزة ولبنان، ففي حالة اتفاقية أوسلو شهد الموقف الإسرائيلي في تنفيذها تنويعة من التبرؤ منها أحياناً، والمماطلة في تنفيذها أحياناً أخرى، وانتهاكها، تماماً كما حدث مؤخراً في التغوّل على اختصاصات السلطة الفلسطينية في الضفة. 
أما اتفاقات وقف إطلاق النار بعد 7 أكتوبر 2023، فقد خرقت إسرائيل الهدنة الأولى في نوفمبر 2023 بعد أسبوع واحد، والثانية في يناير 2025 بعد شهرين، ولم تلتزم أبداً على نحو كامل باتفاقية وقف إطلاق النار مع لبنان في نوفمبر 2024، وفي الحالات الثلاث برّرت سلوكها باعتبارات قدَّرَتْها هي لم يقم عليها دليل قاطع من أي مصدر محايد، فما الذي يضمن ألا تعيد الكرة هذه المرة أيضاً؟
لا شك في أن الضمانة الأساسية لعدم انقلاب إسرائيل على الاتفاق تتمثل في الموقف الأميركي، وبالتحديد موقف ترامب الذي استثمر كثيراً في الاتفاق، وصحيح أن هناك اعتبارات ذاتية تتعلق بحرصه الشديد على بناء صورته كصانع للسلام العالمي، غير أن هناك اعتبارات موضوعية تشير إليها بعض تصريحاته الأخيرة التي أظهرت إدراكه لتراجع دعم إسرائيل في الساحة الدولية، بل وداخل الولايات المتحدة، دون أن تتمكّن من حسم المعركة على الأرض، وهو ما يعني أن استئناف القتال سوف يمثّل مزيداً من العبء الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي والعسكري على الولايات المتحدة، غير أن استمرار الموقف الأميركي المؤيِّد للاتفاق سوف يتوقف على التزام «حماس» به، خاصة أن إسرائيل في انتظار أي هفوة تعطيها ذريعة للانقضاض عليه.

 

*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة