بدأت الدول النامية تتحمّل مسؤولية أكبر عن رفاهها، مستفيدةً من الاستثمارات الخاصة لخلق فرص اقتصادية. خلال العام الماضي، قوّضت الدول الغنية حول العالم إجماعاً راسخاً منذ عقود، ومفاده أن الكرامة الإنسانيةَ قيمة عالمية، وأن على الأمم مسؤولية تعزيزها. لذا، فإن إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، التي تولّيتُ إدارتها لخمس سنوات، ليس سوى جزء من تراجع أوسع وأكثر مأساوية عن نظام المساعدات الخارجية الذي ساعد في شفاء المرضى، وإطعام الجياع، وتمكين الفقراء.
لقد خفّضت دول مثل الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وألمانيا مليارات الدولارات من المساعدات. وتشير أبحاث نُشرت في مجلة «ذا لانست» إلى أن أكثر من 14 مليون شخص قد يموتون نتيجةً لتقليص المساعدات الأميركية وحدها - من بينهم 4.5 ملايين طفل دون سن الخامسة. وفي خضمّ هذه المأساة، من المغري الدفاع عمّا نعرفه.
ولحسن الحظ، يسهم قادة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وغيرها في بناء نظام جديد، فهم يتولّون بأنفسهم زمام تنمية بلدانهم، ويبتكرون سبلاً للاستفادة من التكنولوجيا الحديثة، والأهم من ذلك تشجيع الاستثمار الخاص - الذي لطالما كان التحدي الأكبر أمام مشاريع التنمية. هذه المبادرات تضع نموذجاً جديداً لتمكين الفئات الضعيفة بطريقة أكثر استدامة في القرن 21. قبل ثمانين عاماً تقريباً، اجتمعت الدول القوية حول فكرة الكرامة الإنسانية الشاملة، وجسّدت هذه الفكرة في مؤسسات مثل الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية والبنك الدولي.
ساعد هذا النظام في إطلاق عصر من التقدّم غير المسبوق: إذ حوّل مرض الإيدز إلى حالة يمكن السيطرة عليها، وأنقذ ملايين الأطفال من الموت لأسباب يمكن الوقاية منها، وساهم في خفض الجوع في البلدان منخفضة الدخل بأكثر من 60% بين عامي 1970 و2015. كما أفاد الدول المانحة في مكافحة أمراض مثل الإيبولا في الخارج لحماية الأرواح في الداخل، وتحويل البلدان الفقيرة إلى شركاء تجاريين يخلقون فرص عمل.
ومع ذلك، فبينما حقق النظام فوائد جمة، إلا أنه تعثر مع تغير العالم. فقد كان هذا النموذج ممولاً، وبالتالي مُداراً، من قِبل الدول الغنية، ومُركّزاً في مؤسسات كبيرة. ومع مرور الوقت، ثبت عدم كفاية دعم المانحين والدعم العام للمؤسسات الدولية، ومع ذلك ظلت مشاريع المساعدة معتمدة عليها. كما ازداد العمل مع انتشار المبادرات المتداخلة والمتفرقة، ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى أن أفضل طريقة للحصول على التمويل كانت إثارة الحماس لكل فكرة جديدة. فعلى سبيل المثال، حصلت دولة مالاوي الأفريقية في السنوات الأخيرة على نحو 55% من تمويلها الصحي من حوالي 166 جهة خارجية.
وللحفاظ على تدفّق الأموال، اضطرت إلى إعداد ما لا يقل عن 50 «خطة استراتيجية» مختلفة لتأمين التمويل. وكثيراً ما تجاهلت الدول المانحة والمنظمات غير الحكومية الحكومات المستفيدة والموارد المحلية. وفي الوقت نفسه، خلقت آثار تغير المناخ تحديات جديدة لم يكن النظام مستعداً لها. وتوضح البيانات ذلك بوضوح: فبعد عشر سنوات من التزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بأهداف شاملة تتعلق بتحسين رفاه الإنسان، بما في ذلك القضاء على الفقر المدقع وسوء التغذية، لم يحرز سوى 18% تقريباً من هذه الأهداف تقدماً.
ومع توقف تمويل هذا النظام خلال العام الماضي، ظهرت وسيلة جديدة لتعزيز الكرامة الإنسانية في مبادرات حول العالم، وتقودها الدول النامية نفسها لا الجهات المانحة. يُركّز هذا النموذج على القضايا الأساسية - مثل الوصول إلى الكهرباء - التي تعزّز النمو الاقتصادي وتحسّن نوعية الحياة في أكثر من جانب واحد. كما يعتمد على التكنولوجيا الحديثة: روبوتات الدردشة الذكية التي تُعلّم المزارعين أساليب جديدة، وأنظمة تخزين البطاريات لتمكين استخدام الطاقة النظيفة. ويستخدم هذا النموذج رأس المال الخيري للانطلاق، ويجذب الاستثمارات الخاصة، ويُلزم الدول نفسها بالاستثمار طويل الأجل. في يناير الماضي، انضممتُ إلى أكثر من عشرين رئيس دولة أفريقية اجتمعوا في دار السلام بتنزانيا للتعهد بربط 300 مليون شخص في القارة بالكهرباء بحلول عام 2030.
يُجسّد هذا الجهد النموذج الجديد: فهو مدفوع بالتزامات أفريقية للإصلاح وتوفير الكهرباء الضرورية للوظائف الحديثة والصحة والتعليم والتغذية. وقد أصبح ذلك ممكناً بفضل تقنيات جديدة مثل الشبكات المحلية التي توفر الكهرباء والاتصال بالإنترنت للمناطق النائية. والأهم من ذلك، يركّز هذا الجهد على تقليل مخاطر الاستثمار التجاري، وبالتالي تعبئة رأس المال الخاص لضمان الاستدامة. وفي الشهر الماضي، اجتمعت نحو 80 دولة تمتدّ من أفريقيا جنوب الصحراء إلى جنوب شرق آسيا وأوروبا الغربية وأميركا اللاتينية في البرازيل لدفع واحدة من أكثر الوسائل فاعلية لإنقاذ الأطفال من الجوع: وجبات المدارس. يستفيد نحو 466 مليون طفل من برامج الوجبات المدرسية.
وتُحسِّن هذه الوجبات من تعلّم الطلاب وحضورهم، خاصة الفتيات، بينما تخلق فرص عمل للطهاة والمورّدين المحليين، وتوفّر طلباً مستقراً للمزارعين المحليين. يمكن أن يدرّ استثمار دولار واحد في الوجبات المدرسية عائداً اقتصادياً يصل إلى 35 دولاراً.
وبفضل هذا العائد المذهل، تضاعف التمويل العالمي لوجبات المدارس بين عامي 2020 و2024 - مع أن 99% منه جاء من الميزانيات الوطنية. عندما تُموّل الدولة شبكتها الاجتماعية بنفسها، فإنها تخلق حاجزاً يحميها من الجفاف والضغوط المناخية والصدمات الأخرى التي قد تؤدي إلى المجاعة.
وفي الشهر الماضي، وبينما اجتمع قادة العالم في نيويورك بمقر الأمم المتحدة، التقى رؤساء الدول الأفريقية، بمن فيهم رئيس غانا، جون ماهاما، للالتزام بإعادة تصميم أنظمتهم الصحية لتكون أقل اعتماداً على المساعدات الخارجية.
وبحكم الضرورة، يلتزم ماهاما وقادة آخرون بتحمل المزيد من تكاليفها بأنفسهم وجذب المزيد من الاستثمارات الخاصة. وبدمج هذه الإرادة السياسية مع التكنولوجيا الحديثة - أنظمة البيانات المتكاملة، ودعم الذكاء الاصطناعي لمساعدة العاملين في مجال الصحة المجتمعية على تحديد الأنماط والعلاجات، والأدوية الجديدة طويلة الأمد، مثل علاج فيروس نقص المناعة البشرية «ليناكابافير» - تصبح الإمكانيات هائلة.
راجيف ج. شاه*
*رئيس مؤسسة روكفلر ومؤلف كتاب «الرهانات الكبرى: كيف يحدث التغيير واسع النطاق حقاً».
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»


