هل تخيلت يوماً أن عبوةً فارغة، أو ركامَ هدم، أو حتى غازَ ثاني أكسيد الكربون المنبعث من المصانع، يمكن أن يتحول إلى منتجات تبني بيوتنا، وتدعم اقتصادنا؟ هذا هو جوهر اقتصاد التدوير: رؤية تعُدُّ «النفايات» مواردَ غير مستغلة تنبغي إعادتها إلى دورة الإنتاج. وفي دولة الإمارات، حيث تلتقي البنية التحتية المتقدمة بالطموح الاقتصادي، يوفِّر هذا النهج فرصة عملية لتقليل التلوث، وترشيد استهلاك الموارد البِكر، وخلق وظائف في مجالات التقنيات الخضراء، والمواد المتقدمة، والخدمات اللوجستية.
وتؤكد المبادرات الوطنية أن الفكرة تجاوزت الشعارات إلى التنفيذ، ففي أبوظبي يلتقط مشروع «الريادة» ثاني أكسيد الكربون من مصانع الحديد والصلب، ويستخدمه تحت الأرض لزيادة استخلاص النفط، ما يخفض الانبعاثات، ويُنمي سلسلة قيمة محلية حول التقاط الكربون، ونقله، وتخزينه.
 وفي الشارقة ودبي، تقوم محطات تحويل النفايات إلى طاقة بتحويل آلاف الأطنان من النفايات الصعبة التدوير إلى كهرباء تُغذِّي الشبكة، وتخفف الضغط على المطامر. كما يستعيد مركزٌ متخصص لإعادة تدوير النفايات الإلكترونية في دبي معادنَ ومواد ثمينة من الأجهزة المُهملة، فيما تتعاون الصناعات الثقيلة على توجيه مُخلفات الألمنيوم إلى صناعة الأسمنت، بما يقلل الهدر، ويحافظ على الموارد.
 وفي مركز البحث والابتكار لثاني أكسيد الكربون والهيدروجين «RICH» في جامعة خليفة تُفاعَل مخلفات مصانع الحديد مع ثاني أكسيد الكربون المُلتقَط، لإنتاج مواد بناء، ما يحول النواتج الجانبية الصناعية والانبعاثات إلى موارد ذات قيمة.
وعلى الصعيد العالمي، ترسم مشروعات رائدة ملامح اقتصاد تدوير ناضج، ففي آيسلندا يُلتقَط ثاني أكسيد الكربون مباشرةً من الهواء، ويُعدَّن داخل صخور البازلت، بما يَعِدُ بخفض دائم لصافي الكربون في الغلاف الجوي. وفي بلجيكا والولايات المتحدة والصين تُحوَّل غازات أفران الصلب إلى إيثانول ومواد كيميائية تُستخدم لاحقاً في الوقود والبلاستيك، ما ينقل الكربون من «عبء» إلى «مادة أولية». 
وفي كندا، وغيرها، تُحقن جرعات محسوبة من ثاني أكسيد الكربون خلال معالجة الخرسانة، فيتحول إلى كربونات دقيقة تُحسِّن المتانة، وتقلل الحاجة إلى أسمنت كثيف الانبعاثات. وفي ألمانيا والدول الإسكندنافية حققت أنظمة استرداد العربون لعلب وقوارير المشروبات معدلات مرتفعة من الاسترجاع، موفرة تدفقات نظيفة للمواد القابلة للتدوير، وإسهاماً في نظافة المدن.وتتضح القيمة المضافة عندما ننتقل من «إدارة النفايات» إلى ابتكار مواد جديدة منها، ولا سيما في التشييد، فثاني أكسيد الكربون نفسه يمكن أن يصبح مكوناً محسناً للأداء بدلاً من كونه عبئاً مناخيّاً، إذ يمكن كربنة الخرسانة بحقن ثاني أكسيد الكربون في أثناء المعالجة ليتحول إلى كربونات صلبة تُقوي الخلطة، وتقلص بصمتها الكربونية، كما يمكن تنشيط ركام الهدم عبر الكربنة لتحسين خواص أسطحه ومساميته، ويمكن إنتاج مواد بناء منخفضة الكربون تتصلب عبر تفاعلات الكربنة، مستهلكةً طاقةً أقل كثيراً من الأسمنت التقليدي.
إن البحث العلمي هو المحرِّك الذي ينقلنا من الفكرة إلى المصنع، فيما تشكل الشراكات بين الحكومة والصناعة والجامعات الجسرَ نحو التوسع التجاري. ومن خلال مزج خبرة دولة الإمارات بالتجارب العالمية، والتركيز المتعمد على تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى مواد بناء أقوى وأقل كربوناً، يمكننا تحويل النفايات إلى قيمة تُثري الاقتصاد، وتحسن البيئة، وترسخ مكانة دولة الإمارات نموذجاً إقليميّاً وعربيّاً للتنمية الذكية المستدامة.
الدكتور/ محمد عيد السويدي*

*أستاذ مساعد، قسم علوم الأرض، مركز البحث والابتكار لثاني أكسيد الكربون والهيدروجين (RICH)، جامعة خليفة