نتحدث عن السعادة ونطلبها.. تمر بنا خطفاً من دون أن ننتبه، لأننا نستشعرها بغتة لسبب قد يكون بسيطاً في ميزان العقل، كأن يقع بصرنا على مشهد زهرة تفتحت في باكورة الصباح، أو لنسمة منعشة في الهجير أو لذكرى عابرة، وأبسط من ذلك، مذاق طعام لذيذ أو صحبة حلوة، وهي لا تخضع للعقل إلا كباحث عنها.. كمطلب غريزي ربما.. وربما هو مطلب إنساني نسعى له بأفعال قد لا تأتي بالسعادة التي نتصور أنها هي. وقد نشعر بها لحظة غامضة بوصفها إحساساً هادئاً ينسل إلى أعماقنا بيسر وعذوبة ويحتوي خلجاتنا كلها، يشملنا بالرضا والتسامح، بالرحابة والمحبة.. بالجمال يغمرنا ويفيض على ما حولنا، لذلك لا تشبه الانفعال الصاخب الذي يولده الفرح أو الابتهاج الشديد. ومع ذلك فالسعادة لا تُقيمُ، ولا نملك إبقاءها، لأنها عصية على بساطتها، وممكنة رغم تمنعها. أبو نصر محمد الفارابي في مدينته الفاضلة، يرصد أسبابها وكيفية الوصول إليها فيقول: “وعندما تحصل المعقولات للإنسان يحدث له تأمل ورويّة وذكر وتشوق وتفكر إلى الاستنباط، ونزوع إلى بعض ما عقله.. والنزوع إلى ما أدركه، إذا كان عن إحساس أو تخيل سمي الإرادة. وإذا كان عن رويّة سمي الاختيار. فحصول المعقولات الأولى للإنسان هو (شرط المعرفة). وبهذه المعقولات يصل الى السعادة. والسعادة هي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود حتى تشف وترقى...”. والسعادة عند الفارابي مشروطة بجوهرها ومعناها، إذ أنها الخير المطلوب لذاته. فالخير شرط السعادة لأنه جوهرها. أما الشر فإنه ضدها. لذا فإن الوصول إلى السعادة يقتضي فعل الخير الذي يتجسد في الفضائل(الجمال) بمعناها المطلق أما ما هو ضدها فهو الشر الذي يتجسد في النقائص والرذائل والخسائس بمعناها المطلق أيضاً. اذا كانت السعادة قيمة معنوية تنتج عن الفضائل التي هي تجسدات الخير فإنها منبنية على فعل الاختيار بينها وبين ما هو ضدها. إلا أن الوصول إلى فعل الاختيار هو الشرط الصعب عند الفارابي. فعلى الإنسان كي يصل إلى قدرة إتيان هذا الفعل أن يوقف قوته الناطقة (التفكير) على ما يكتسب من معارف وقيم وأفعال، وما يختزن من تجاربه وتجارب الآخرين، وما يحيط به من الموجودات، ما تبدى منها وما خفي.. ويقيسها بالتأمل والترويّ والاستنباط. وهذه المعقولات مشتركة لجميع الناس، طالما أن البشر يملكون عقولاً فعالة. وهذه المعقولات في رأيه تنقسم إلى ثلاثة أصناف وهي: –أسس المنطق وقياس البرهان. وقيم الذائقة النقدية الجمالية. والعلوم بشتى تنوعها التي نفرعها اليوم إلى كيمياء وفيزياء وفلك وغيرها مما يكتشف بها الإنسان أسباب الموجودات وقوانين نشوئها وتطورها. ??? إذا كان الفارابي قد جعل شرط السعادة الحصول على تلك (المعقولات) وشرط إرادة الاختيار، فأي شقاء يحيق بنا اليوم، في نظره؟ فلا أسس المنطق وقياس البرهان يدوزن حياتنا وأفعالنا وانفعالاتنا وأقوالنا. ولا حرية للذائقة النقدية لتنتصر للجمال بدلالاته العديدة وترفض القبح بدلالاته المستشرية. ولا علم يؤسس فعل التفكير والاستنباط لدينا ويكشف لنا طبيعة الكون والكائنات وقوانين تطورها. فكل حياتنا وحضارتنا ماضياً وحاضراً منبنية على الغيب والقدرية واللاإردية والخنوع بدل الاختيار، والقبول بدل التفحص والرفض، واليقين بدل الشك والسؤال! وإذا كان هذا هو واقع أحوالنا حتى في زمن القياس والبرهان والعلم والحرية، فيكف لنا أن نسلك السبيل إلى هذه الغاية القصوى والكمال الأخير؟!! hamdahkhamis@yahoo.com