وأكثر ما يوجد الرقيب الداخلي في حالة السيرة الذاتية، فالسيرة الذاتية على وجه الخصوص هي نوع من البوح الذي لا رقيب عليه، والذي يلجأ فيه المحلل النفسي، أحيانا، إلى التنويم المغناطيسي أو غيره من الحيل التي تحرر الوعي من كل قيد أو رقيب، يمنع عفوية عملية البوح أو تلقائيتها، إلى أن تتكشف البقعة المظلمة التي يبحث عنها المعالج النفسي في أعماق مريضه الذي لم يتم له الشفاء إلا بعد اكتشاف هذه البقعة. والفارق بين السيرة الذاتية والبوح على أريكة التحليل النفسي أن كاتب السيرة الذاتية لا يخضع نفسه لأي نوع من التنويم، ولا يملك سوى قراره المعلن بأن يصدق مع نفسه، ساعيا إلى اكتمال اكتشاف هذه النفس من خلال الغوص في أعماقها الواعية على الأقل، لكنه مهما وصل أعمق أعماق الوعي، فهناك ما هو دون الوعي، أو ما تحته، حيث القارات اللامنظورة والطبقات اللامعروفة من اللاوعي أو اللاشعور. ومهما كان كاتب السيرة الذاتية حريصا على الصدق، وعلى البوح الكامل للقارئ المضمر الذي يحل رمزيا محل المعالج النفسي، فإن هذا الحرص لا يصل إلى مداه، ولا يحقق غايته إلا في دائرة الوعي، أما ما دونها أو ما تحتها فإن الأمر صعب، ففي اللاوعي يتمطى الرقيب الداخلي كأنه الأخطبوط الذي يفرد أذرعه التي لا نهاية لها أو حصر في كل اتجاه، وذلك ليقبض على أي انفجار ممكن يصعد من أعماق اللاوعي إلى سطح الوعي. ولذلك يتعارض، دائما، مبدأ الواقع مع مبدأ الرغبة بلغة التحليل النفسي، مبدأ الواقع هو ما يفرضه الرقباء الخارجيون وينوب عنهم الرقيب الداخلي، مراوغا مخاتلا، ملتو كأنه أذرع الأخطبوط، فلا هم له إلا تنفيذ نواهي الرقباء الخارجيين الذين زرعوه في أعماق الذات اللاوعية بعد أن أسسوه ورسخوه في الوعي. أما مبدأ الرغبة فهو الاندفاعة النارية البركانية الأولى التي تكون مبدأ الانفجار البركاني ومطلعه وهي مقموعة ومسجونة في مجتمعاتنا داخل ألف سجن وسجن، وتحت عشرات بل مئات الطبقات الصلدة التي يستحيل اختراقها في مجتمعاتنا، وحتى إذا حدث استثناء لا ينفي القاعدة، فإن هذا الاستثناء سرعان ما يواجه بأشكال هائلة من العقاب الذي يجعل من الوعي الذي اقترف هذا الاستثناء، وسمح لمبدأ الرغبة بالتحكم فيه للحظة، أمثولة مخيفة لغيره، ونموذجا مرعبا لأشكال العقاب المماثلة، حيث تحل اللعنات كالإدانات من كل مكان، وتتكاثر حجارة المرجم مع أنواع النيران المحرقة، فلا يعاود الوعي الذي اقترف الجرم سرة الخطيئة نفسها مرة أخرى، ويتعظ الذين يرون الجزاء فلا يفكرون، واعين، في الخروج على رقباء الدين والسلطان والمجتمع وغيرهم من أشكال السلطة التي تثقل الوعي العربي كله، كالقدر الغشوم، فلا تفتي أو تتبدد.