ربما كان الشاعر عبدالوهاب البياتي أول من أذاع مصطلح المنفي في الشعر العربي منذ الخمسينيات بدوافع سياسية، عاناها مباشرة في العهد الملكي في العراق، فسمى ديواناً مبكراً له «أشعار في المنفى»، أو تأثراً بناظم حكمت المنفي من تركيا ـ وطنه ـ الذي قال فيه إن الشاعر حين وضعوه في الجنة صاح ملتاعاً: وطني، وأطلق مقولته التي كانت عنواناً لأحد دواوينه: يالحياة المنفى من مهنة شاقة!. لاحقاً سيكون المنفى أكثر قسوة، فهو اختيار ـ لا اضطرار مثل حالة حكمت والبياتي ـ يسعى إليه المنفيون بأقدامهم وتسعى بهم إلى حيث العناء والنوستالجيا، وهذا ما يشخصه خلدون الشمعة خاتماً ديوان الشاعر عبداللطيف اطيمش «توابيت عائمة» الصادر مؤخراً، مضيفاً أن «معظم قصائد الديوان.. هو حصيلة ذاكرة منفية جمدتها تحديقة ميدوزا في الزمان والمكان». لا يخفي اطيمش تلك المزايا بل يعلنها كعتبات لقراءة شعره الذي ينتمي إلى مدرسة الشعر الحر العراقية أيام صعودها الإيقاعي والصوري والمضموني، لذا يمكننا أن نعثر على ثيمات واضحة تعزز المباشرة والطبيعية التي يعلنها الشاعر مفتتحاً لديوانه مقتبساً من ييتس قوله «شعر الشاعر ينبغي أن يكون مباشراً وطبيعياً مثل كلام محكي»، ويهدي الديوان إلى أخيه الأكاديمي والكاتب الراحل محسن اطيمش «الذي حالت المنافي دون لقائنا المؤجل» فيصبح للمنفى تضاعيف وخسائر عميقة تبرر الشكوى من مفرداته وتفاصيله، ولكنها قد لا تبرر الدعوة إلى أن يكون الشعر مباشراً وطبيعياً كما نص المفتتح. في اشتباك التداعيات يتناظر الماضي ـ لا سيما المكان (الناصرية) أو بقايا أور القديمة ـ والحاضر زمنا للعيش بعيداً وقصياً عن الذكرى. ذلك يفسر احتشاد الديوان بأسماء الأصدقاء والشوارع والحارات ومحطات القطار والمدارس والمغنين والأشعار الشعبية، وكل ما يستحضر تلك المدينة الجنوبية وأهلها، ولكن في سياق فجائعي وبكاء يرتفع ليناسب مهمة الوضوح والمباشرة التي يدافع عنها الشاعر مستعيراً المأثورات. «آه من قلة الزاد/ ومن وحشة في الطريق/ وطول السفر!». وتوفر له هذه الأقانيم الثلاثة ملخصاً لما يعاني في أيام المنفى: «آه من سفر القلب/ ما بين منفى ومنفى/ أين يمضي الزمان؟/ وفي وطني/ يهرم الناس قبل الأوان». ويزيد ألم الوصول إلى المنفى ما حل بالمكان الأول، حيث صار الوطن توابيت عائمة فوق مياه نهرين كانا رمزاً للخصب والحب والحياة: «مقابرنا سفن/ فوق ماء الفراتين/ تطفو التوابيت/ ما بين نهرين/ على صفحة الموج/ لا أحد يوقف الموج/ أو يوقف الموت/ أو عارف أين ذاهبة/ كل هذي التوابيت عائمة فوق سطح المياه». تصطف في الديوان تفاصيل مدهشة يستعيدها الشاعر عن المكان الأول في تداعيات تؤشر إلى عمل الذاكرة بديلاً للخيال، فتنهمر سجون وساحات وأغنيات ووجوه ورسوم تشكل لوحة الوطن القصي الذي كان أيام جيل المنفى الأول جنة مفقودة فصار جحيماً مشتهى يغيم بعذوبة وعذاب فوق صفحة الذاكرة