يمثّل الحديث عن (نص) بمقابل القصيدة أو القصة كلاماً بحاجة إلى التعيين والملموسية، فقد كان مقترح تجنيس النص قسيماً للأنواع الأدبية نوعاً من محاولة تحريك جسم القصيدة والخروج بها من نمطيتها، لكن تلك الدعوة لكتابة نص بالإفادة من انفتاح الأجناس الأدبية على بعضها في هبة الحداثة وتبدل المؤثرات لم تقدم دليلاً على إمكان تفرد (النص) بمزايا فنية يترتب عليها تقبل جمالي محدد، بل ظل ما نشر باسم النص المفتوح يحيل إلى جذره ورَحِمه قصيدةً أو سرداً، ولعل ما جناه النقد والأدب من ذلك المقترح هو تحرير مصطلح نص من ظلاله المتشددة في الاستخدام الفقهي والتداول العام والعودة إليه مرجعاً وحيداً للشعرية لا العوامل الخارجية كالتاريخ أو البيوغرافيا، وتحريكه ليشمل مفردات مكتوبة في أنواع شتى، فثمة نص شعري وآخر سردي وصولاً إلى ما يعرف اليوم بالنص البصري إشارة إلى المتون المقدمة في التصوير والتشكيل. في السؤال اليوم عن مصير مقترح توليد نص مستقل عن الأنواع المتداولة يرد التمثيل بكتابات خلطت القص بالشعر مثلاً، ولكن من مركز محدد تنطلق منه، الشاعر يسحب أعراف القصيدة إلى المركز ويأتي بالاستعانات السردية والصورية تعزيزاً للدلالة الأساسية، والقاص يبدأ من بؤرة سردية تولّد ما يلي من دلالات يكون للشعر فيها التماعات وإضاءات مستضافة، وليست جزءاً أساسياً من النسيج والبنية النصيّة. تثار هذه المراجعة للمصطلح ومفرداته إثر تساؤلات في حواراتنا الثقافية عن مخارج للقصيدة تنتشلها من مضايقها التي تمر بها في مراحل كتابتها المعاصرة، وضرورة تحديثها شكلياً وبنائياً كي لا تتجمد وتقف عند تقاليد تتحول بدورها إلى ثوابت ومحددات. لكن النص المفتوح ظل وعداً. هنا تفوّق التنظير على الإنجاز. انهمك النقاد في وصف انفتاح الأجناس والأنواع واستفادتها من بعضها، ثم لم نجد نصاً تقوى فيه الصلة لينفرد عن مفردات النوع الذي انبثق منه. ربما خضعت نصوص السيرة الذاتية لعقد قراءة أو ميثاق سير ـ ذاتي يرهن النص بالرواية والمقال والتاريخ، ولكن شعريتها تظل في مركز الحكي عن الذات بنفسها. الأنواع امتصت التأثر والانفتاح بصورة أكثر عمقاً: السينما في الرواية، والقصة في الشعر والشعر في القصة، واللوحة في الوصف، والمشهدية في السرد... أما النصوص، فظل المركز النوعي يجذبها، وتقترض من سواها لصالحه. يشير رولان بارت في درس السيميولوجيا إلى براعة العرب في التعبير عن النص بالمتن، ويفهم من المصطلح أنه يعني الجسم الصحيح ـ ولعل الوصف منخذل بالترجمة ـ لكن جسدية النص فكرة ذات جاذبية في خطاب الحداثة لتخفيف غنائيته وميوعته. قد تصلح (الكتابة) اليوم مقترحاً يدعو للفحص والتأمل ويرث من النص تفرده كمفردة خطابية، واشتراكه مع سواه في المزايا النوعية، ولكن بحرية اجتلاب واقتراض أية استعانة تعزز البنية وتجلي الدلالة.