لا أزال أذكر مكتبات المدارس التي قضيت فيها مراحل التعليم المختلفة في مدينة المحلة الكبرى، وأهمها مدرسة طلعت حرب التي كانت مكتبة بالغة التميز والثراء بالقياس إلى كل المكتبات التي عرفتها في المدارس السابقة· وكان أمين المكتبة شاباً أقرب إلينا في العمر هو الأستاذ محمود المداح، مدّ الله في عمره وجازاه على ما أفادنا به، وكان يجمع حوله عدداً من الطلاب محبي القراءة، أطلق عليهم أصدقاء المكتبة وسرعان ما انضممت إليهم، وأخذت أسهم في نشاطهم، وقد أضفت إلى العضوية العادية تطوعاً بكتابة بحث عن أحمد شوقي أمير الشعراء، ويبدو أن الذي أثار في ذهني فكرة البحث هو قراءتي لكتاب شوقي ضيف ''شوقي شاعر العصر الحديث''، واشتريت ''بلوك نوت'' سميك الحجم كي أكتب فيه البحث، وجمعت كل ما في المكتبة عن شعر أحمد شوقي، ولم أكن أعرف في ذلك الوقت كتابة الجذاذات وتصنيفها أو كيفية استخدام المراجع والمصادر أو الإشارة إليها، ولا حتى الاعتماد الأساسي على شعر شوقي، سواء في ''الشوقيات'' أو غيرها، وما حاجتي إليها وعندي أكثر من كتاب عن الشاعر وشعره، تمتلئ بنماذج من هذا الشعر؟ هكذا أقنعت نفسي بأن قراءة أربعة كتب عن شوقي كافية جداً للبدء في الكتابة· المهم أنني جلست إلى طاولة الكتابة، وبدأت الكتابة، لكن بعد أن حددت الأقسام التي سوف يضمها الكتاب، وكانت البداية لحياته، وبعدها مراحل شعره، وأخيراً أغراض الشعر وموضوعاته· الطريف أنني تجاهلت مسرحيات شوقي لأنني، ببساطة، لم أكن أعرفها، وأخذت أكتب في كل فصل ما كنت أنسخه نسخاً من الكتب القليلة التي اعتمدت عليها، خاصة كتاب شوقي ضيف الذي نقلت ما يقارب ثلثه نقلاً كاملاً، وبعد أن ملأت كل صفحات ''البلوك نوت'' أعطيت الغلاف لزميل لي بارع في الرسم ليرسم وجه شوقي المعروف وهو يسند رأسه على يديه، مستغرقاً في التأمل أما الصفحة الأولى فأعطيتها لزميل ثالث، حسن الخط، ليكتب اسم أحمد شوقي، وظننت بهذا الفعل أن البحث قد انتهى، وحملته إلى أمين المكتبة، ثم إلى أستاذ اللغة العربية، وقد فرح بي كلاهما جداً، ولكن دون أن يلفتني أحدهما إلى أن الذي فعلته كان نقلاً لا تأليفاً، فقد تركا ذلك للأيام، وأرادا التركيز على مجرد النبتة الصغيرة التي رأيا فيها أصل الشجرة التي تنمو وتثمر في المستقبل·