الخبر المفجع الذي حملته بعض صحف ذلك الصباح البعيد حول وفاة الشاعر يوسف الخال، مؤسس مجلة “شعر” بالنسبة لمحبيه وأصدقائه سيكون الأكثر فاجعيّة وفتكاً منه، الخطاب الذي ألقته منذ أيام، الشاعرة مها الخال زوجة الراحل في ذكراه وذكرى المجلة بحضور بعض الفاعلين في مسيرة المجلة الشهيرة، في طليعتهم أدونيس وأنسي الحاج.. ما قالته السيّدة الخال فعلاً صادماً ومروّعاً، حيث أن قبر الشاعر الكبير لم يعد موجوداً، ليس لأنه دَرَسَ بفعل عوامل الزمن والطبيعة، بل لأن آخر أو آخرين احتلوا المكان عينه.. وعلينا أن نتخيّل ما آلت إليه الجثة وحرمة الميت، أي ميت، فكيف إذا كان بمثل هذا البعد الرمزيّ والعطاء؟! كذلك أوضحت الشاعرة مها البيرقدار الخال، بأن بيته المعروف في منطقة (غزير) مهدد بالإمحاء والزوال!! يوسف الخال واحد من رموز الأدب المؤسسين، على مستوى الثقافة العربيّة، وسجّال الحداثة والتنوير والتجديد.. وكان محط جدَل وإشكال حول آرائه السياسية والفكريّة والأدبيّة كما جسدّتها مجلة “شعر” وخارجها من كتب ومقالات إشكاليّة، طبيعية في مستوى الرجل وحجمه وطموحه. وما لا خلاف عليه أو لبْس، هو قيمه الأخلاقيّة وصدقه في التعاطي مع الأدباء من كافة الأجيال والأماكن. صدق قلَّ مثيله في أيامنا العجاف على المستوى الإنساني، كما عرفتُه وتوطدت علاقتي به في باريس التي صار يتردد عليها كثيراً في الثمانينات للاستشفاء والعلاج، كان لا يبخل بأي دعم مادي ومعنوي على الجميع بعيداً ـ أيما بعد ـ في هذا السياق، عن الإقليميّة والطائفيّة وكل أنواع الانحيازات والعصبيات التي تهبّ رياحها الوبائيّة من كل صوب واتجاه.. ومع الصديق الشاعر حمزة عبود وسيمون الديري وجميل حتمل وآخرين نتذكر مواقفه النبيلة التي لا يريد منها جزاءً ولا هدفاً بعينه، عدا صدق الإرادة وجمال اللحظة الشعريّة. إذ أن الشعر لا يتجلى في كتابة القصائد والمدوّنات فحسب وإنما أحد عناصره الجوهريّة، هذه المواقف واللحظات التي تعزّ حتى الغياب الكامل في اللحظة الراهنة المفعمة بكل ما هو نقيض البراءة والسلوك الجمالي الصافي.. مواقف كثيرة مع أصدقاء جمعتني بالراحل الكبير وأوقات عميقة بمعيّة الصديق محمد بنيس والمرحوم رشيد صباغي من المغرب العربي ومن الجزائر وتونس.. كان يوسف الخال واحة أدبيّة وأخلاقيّة وارفة على الجميع برغم ما قيل عن “لبنانيّته” وربما “فينيقيته” التي تظل مقولة نظريّة في سياق سجال عام.. وليس النشيد القومي والأممي على نبل طموحهما، من يعطيان للسلوك هويّته الإنسانيّة والأخلاقيّة، فالمسألة تتعلق بقيم الفرد ووجهته، وليس بأوهام الجماعات المتخيّلة. هذه الإشارات السريعة المطعونة ببراءتها حول ما آل وسيؤول إليه وضع الجماعات والأوطان العربيّة من انحدار الأحوال وسوئها، في علاقاتها مع الأحياء وأولئك الذين غيبهم الموت لكنهم لم يستريحوا، على الرغم من أن الموت روح الغيابات وفصلها الأخير. فقد اقتُلعوا من أجداثهم، لتبقى أرواحهم ترفرف شاهدةً على الخذلان والعجز وظلام دَرْك الهاوية.. “البئر المهجورة”، أي عنوان دالِّ بعمق للعطاء ومن ثَم الهجر والنكران، حتى من علامة أو شاهدة قبر؟!