أخشى ما نخشاه أن تغدو موقعة الكرة في السودان واحدة من أيام العرب الأثيرة المأثورة: داحس وغبراء جديدة تمتد أربعين عاما، كما عمّرت تلك الموقعة العتيدة التي ـ بالمناسبة ـ كانت رياضية الدافع، وكما تقول أخبار العرب وكتب أيامهم وأشعارهم المخلدة لها، فقد نجمت الحرب بسبب سباق بين فرسين تعرض أحدهما لخدعة فاز بسببها داحس فشبت نار مستعرة دعت الشاعر زهير بن أبي سلمى لتذكير عقلاء العرب بأن هذه الحرب التي دقت عبس وذبيان بسببها عطر منشم المشؤوم (ستنتج لهم وِلدانَ أشأم كلهم) بل ستتناسل حتى يرثها أجيال بعدهم مصابون بلوثة الحرب الذميمة التي هي ليست (بالحديث المرجّم) بل موت وعداء وكراهية! المفارقة في داحس الكره بين مصر والجزائر أنها حصلت في غمرة الاحتفال العالمي بيوم التسامح أو أيامه التي شهدت في عدة عواصم عربية ندوات وتظاهرات ثقافية وعروضا سينمائية تلهج بإشاعة ثقافة التسامح واستبدال فكرة إلغاء الخصم بالحوار معه كعادة ثقافية تؤكد ميزة الجدل في البشر، تلك التي كادوا أن يفقدوها وسط الهيجان الحماسي للذات المنزهة في الخطاب التعصبي من الخطأ لأنها تمتلك الحقيقة، وسواها هو المخطئ دوما، بل لا حق له في الرأي والمخالفة لأنها خيانة، ليس هذا فحسب بل يصبح القضاء على الخصم معنويا وجسديا أمراً مبرراً ومقبولاً، فلا حق له في الحياة مادام لا يرى ما أراه.. وهكذا أغتيل مفكرون وخُطف أبرياء وأُغلقت منابر فكر وإعلام، ومُسحت من الذاكرة مؤلفات ومدونات، وغُيّبت من برامج الدراسة والتربية والنقد. ولعل أغرب ما لفت نظري في الموقعة الكروية أنها تعدت صراع الأقدام والفن الكروي إلى صراع الإعلام والتصريحات العصابية حتى أن أحد من التقى بهم مذيع رياضي ليستطلعه توقعاته قبل المنازلة، ردَّ بثقة يحسدها عليه العلماء بأن فريق بلده سيفوز حتما لأن شعور لاعبيه بالمواطنة أقوى من شعور الفريق الخصم! هكذا صارت النيات براهين في غياب العقل فافترض المتكلم في حمى هيجانه درجات للوطنية يُصنف على أساسها سواه، ولعله أضمر أو أوحى بأن فريقه أكثر إيمانا بالله من الخصم لذا فسوف ينتصر! عدا بعض النشاز كان المثقفون العرب رغم تهميش مجتمعاتهم لهم ونبذ أنظمتهم صوتاً للتسامح، فدعوا إلى تهدئة الهوس المرضي الذي تمدد ليعدي الجماعات لا الأفراد، وذكّرونا بأن القاهرة قبل أيام من الموقعة الكروية منحت سوريا هو زكريا تامر جائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة، وقبله منحت جائزة الشعر لفلسطيني هو محمود درويش، كما احتفت الجزائر بمؤتمرات للشعر العربي والسينما العربية، وشهدت عاصمتها لقاء اتحاد الكتاب العرب، فكيف تتحول تسعون دقيقة من لعب (الكرة) إلى أعوام من العداء لأن دعاة الجهالة والحمق والتعصب أسقطوا عن تاء (الكرة) نقطتيها لتغدو (كُره) الآخر وإعدامه أخلاقيا وفنيا ووطنيا أيضا؟!