يغرف الروائي أفكاره ويصطاد شخصياته من نهر السرد متجدد الماء ودائم الجريان، ويعثر في أعماقه على أفعال عمله، وهكذا تتحكم وجهة النظر بمسار اللغة والإيقاع ومصائر الأحداث ونهايات الحكي الممزوج بخيال الكاتب ورؤاه المتوسعة. ولكن النظر بين القدمين فقط والعثور على الحبكات في القريب الممكن على الساحل لا في اللجة، يحيل العمل إلى وثيقة تقصر عن أمرين: الارتقاء إلى عمل فني له اشتراطات السرد وعناصره التي تجعله جديراً بالقراءة، وعن تمثيل المرجع الذي يظل أشد حضورا بتفاصيله من أي محاكاة له لا يطورها المتخيل السردي. وربما كانت تلك بعض سمات المسافة بين الرواية والسيرة: ذاتية أو غيرية وبعض حجتنا في الفصل بين الرواية والسيرة إلا إذا أخذت الأخيرة هيئة سردية خالصة فكانت معروضة للقراءة كذلك. الحافز على إنشاء هذه المقدمة لقاء صحفي مع الروائية حنان الشيخ لمناسبة ترجمة روايتها “حكايتي يطول شرحها” إلى الإنجليزية بعنوان “الجرادة والعصفور ـ حكاية أمي” إعلاناً واعترافاً بدور الأم فيه، فصرحت الكاتبة بأن “أمها ألحت عليها لتكتب قصتها الحقيقية بدل اختلاق القصص من بنات أفكارها” وتنبهت البنت إلى ما في حياة الأم من غنى توافرت عليه بعد تجاهله زمناً لتلبي نصيحة الأم المتضمنة بسؤالها للبنت الكاتبة: “لماذا تأكلين من صحون الآخرين؟”. وأياً كانت عائدية صياغة السؤال: للأم أو للكاتبة أو للصحفي الذي أجرى اللقاء فهو يعكس قناعة سائدة بأن السرد كالشعر يعيد ترتيب الوجدان والإحساس الشخصي وبذا يضيق المتخيل ويصغر السرد الذي وصفناه بالنهر ليغدو صحنا كما في السؤال الذي يحصره في الذات المهيمنة على الأفعال والمصائر وجريان نهر آخر على الورق يبحر فيه العمل. لا شك في أهمية مفارقات حياة الأم واختياراتها الحرة وكفاحها الذي تمثلته الكاتبة بصراحة تعوز الكثير من أعمال السيرة، ولا شك أيضاً في براعة الكاتبة ذات التجربة المعروفة في السرد الروائي، ولكن ما استوقفني هو تضييق أفق الكتابة كما اقترحته الأم الفاعل السردي الحقيقي خارج الكيان الورقي ـ الخيالي للعمل، وسؤالها يعكس وعي القراء وتصورهم للعمل السردي الذي لا يعدو الاغتراف من (صحن) سيظل محدوداً مهما توسع بطاقة الخيال المسلّطة عليه، ولما كان كذلك فالأولى أن يمتلئ بمادة شخصية بدل التطفل على صحون الآخرين على الرغم من اعتقادنا أن السرد لا يقوم إلا عليه. حكّاؤون كثيرون لا تعنيهم الصحون القريبة مهما امتلأت وأطعمت براحة وسهولة.. حكاؤون من نسل شهرزاد تتنزل حكاياتهم من نهر يجسد المقولة القديمة بأننا لا ندخله مرتين لأن مياهاً جديدة تعبر أجسادنا دوماً فيضيق عنها أي وعاء.. فلنحور إذن ما قيل عن جرير والفرزدق: هذا يغرف من بحر وذاك ينحت من صخر لتغدو: الرواية تغرف من نهر والسيرة تأخذ من صحن!