لا يزال إشكال علاقة المثقف بالدولة يشغل أذهان الكثيرين، خصوصا الذين يختزلون الدولة في مدلول السلطة الذي ينطوي على كثير من معاني السلب والرفض، فالسلطة توحي، دائما، بالبطش، ولا تفارق دلالة الإجبار والقسر والقهر ولذلك تظل مذمومة الإيحاءات، مؤكدة حضور قوى الظلم وبطشه، ولا أدل على ذلك من الأغنية الشعبية القديمة التي تحمل معنى الشكوى ''بلدي، يا بلدي، والسلطة أخدت ولدي'' حيث لم تكن ''السخرة'' تفارق الكارثة التي أودت بحياة الآلاف، سواء في التجنيد الإجباري الذي لم يكن يعود منه إلا أقل القليل، أو حفر القناة الذي أودى بحياة الآلاف المؤلفة· ولذلك أفضل استخدام مصطلح ''الدولة'' بدلا من ''السلطة''، وأختلف مع كثيرين في فهم هذه العلاقة، فأنا أتصوّر أن ''الدولة'' هي سلطة الشعب التي نؤكدها دائما، وينبغي أن يتوقف احترامنا للدولة على توافقها مع مصالح الشعب، وإلا فإن علينا أن نسعى بكل الوسائل، بوصفنا، مثقفين، لكي ندفع الدولة إلى تحقيق مصالح الشعب، وتطوير واقعه، والإصلاح من أحواله باستمرار· ولذلك فلا حرج ولا جناح على المثقف إذا عمل في خدمة الدولة، لا عبدا لها، وإنما استجابة للحلم العريض الذي يجمعه والشعب الذي ينتسب إليه· وإذا كان من الشروط الأساسية للمثقف أنه ينطوي على رؤية تقدمية، تهدف إلى تطوير الواقع الذي يعيش فيه، والعمل على دفعه إلى الأمام في طريق التقدم، ومن ثم استبدال أفق الحرية بواقع الضرورة، فإن العمل مع الدولة واجب وضرورة، وذلك لدفعها إلى ما يحلم به المثقف· صحيح أن هناك فارقا أساسيا بين المثقف والسياسي، المثقف لا يحد حلمه عن المستقبل شيء، بينما السياسي مرتبط بإمكانات الواقع وحده، فالفارق بينهما فارق بين مبدأ الواقع ومبدأ الرغبة، إذا استخدمنا مصطلحات التحليل النفسي في كتابات فرويد، ومع ذلك لا مانع من أن يعمل المثقف مع السياسي، ومن ثم مع الدولة، ولكن بشرط أن يكون عمل المثقف مشروطا بما يمكن أن يحققه من رؤيته لمستقبل أفضل، وما يمكن أن تساعده الدولة على تحقيق ما يحلم به في هذا الاتجاه، فإذا كانت الدولة تسمح للمثقف بأن يحقق أقصى ما يستطيع من حلمه، وتدعمه في هذا الاتجاه، فإن العمل معها واجب وحتمي·