يصادف هذا الأسبوع ذكرى فراق فصل بيني وبين أمي، فدخلت عالم الكبار وأنا وهي ما زلنا صغيرتين فلم تنفعها سني العمل الشاق ولم تسعفني الغربة في درء ما يحبس الأنفاس، فأصبحت بين ليلة وضحاها مفرغة من مشاعر الحب والألم ومليئة بالشوق والإيمان. فأقسمت من شدة ألمي أن أقضي ما كتب الله لي من أيام في الدعاء لها والضحك على ما أذكر من مواقف جمعتنا. ومن طفولتي أذكر أنه يوم “يتخرطف الصغيروني يفتن عليه العود ويهزبه: شبلاك تترامى وتتدهدر، اصطلب وغْـدّ ريال أو غْـدّي حرمة وعن هالتمييحات، مش أو مشيّْ عَـدلّْ. ويوم يتخرطفون الكبارية يقولون لهم اللي من سناهـم، خطاكم الشر أو عـثَّر عدوكم”. أما في بيتنا كانت أمي تقول للمتلعثمين في مشيتهم “بلاك” تمشي وكأن عينك في سقف رأسك؟ وتُـبدع في وصفها لمن يدوس عليها أو يلطمها وهو يتراوش مع أخيه أو أخته بقولها “داستك خيل ما فيها ذيل”. وبعد أن لبسنا ساعات الرولكس في زمنٍ لم يكن ذلك شائعاً أصبحت تقول: “داستك خيل ما فيها ذيل الساعة ثنعشـرّْ من الليل”. ولا أعتقد بأنها كانت تهتم لساعة محورية من حياة سندريلا لأن “البديحة” كانت قصتها المفضلة، ولكن لما للخيل والليل من أهمية ومكانة مرموقة في ثقافتنا العربية. لقد عَـمَلت والدتي رحمها الله بتفانٍ وإخلاص حتى جعلت من إرهاقها المضني من العمل داخل البيت وخارجه ما جذب ردةَ فعـلها تجاه الثياب المتناثرة، بخلاف قانون نظافتها ونظام ترتيب “الخراوشين”، فتسمعها تقول عندما تجد البيت “لايث شل الشيء الفلاني شلك يمل وداك شْـمَـلْ” أو “شلك طهف وداك خصف”. وعندما كبرت وقام اتحاد الإمارات السبع في الثاني من ديسمبر عام 1971 تعرفت على منطقة شْـمَلّْ التي تقع في إمارة رأس الخيمة، وأن خصف المذكورة قد تكون من مشتقات أسطورة سويدا خصف. وللعارفين أترك مصطلح سقف الرأس حيث تقع العين وتتغير زوايا الرؤية ومحاور الضوء والظل وهو أشبه بنهاية المستقبل أو الأحلام النائمة أو الصخور اللينة! وفي تلايا أيامها رتبنا جدول العمل ففي النهار تتواجد أختي الصغيرة حتى تخرج وحيدتها من المدرسة، وبعد الظهر تداوم أختي الكبيرة بعد انتهائها من معترك غرفة المدرسات و”صريخ المذارج في الصف”، ويكون دوري في فترة المساء والسهرة. وذات يوم حلت البركة بحضور “تفرو” من أثيوبيا فقلنا للوالدة إنها قد تحل محل أي واحدة منا في حال ارتباط إحدانا بموعدٍ أو التزام ما، فوافقت على تلك الخطة بامتعاض وتركت الأمر للتجربة. وعند “المغيربان” جئتها وفي لحظة إلقاء التحية وقبلة الرأس قالت: “يا هالناس هاي هب حالة، ما أبغي حد عندي، قولوا لها إن الدكتور مانع عليها الزيارة! “فوصلتنا الرسالة الشفهية المباشرة رداً على تلك المبادرة. وبعد الضحك الكثير فتحت عينيها وأوصتني على عيالها كلهم وعلى فريق عملها وجميع معارفها ومن “قـزرت” وياهـم وقت في الشندغة وزعبيل وند الشباء رقم 1 و 2 وعندما أغمضت عينيها قلنا بروح الفريق: الله يرحمك يا أم محمد.. وفتحنا دفاتر ذكرياتنا التي ستموت عندما نموت. bilkhair@hotmail.com