كتب وتحدث كثيرون عن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ طيب الله ثراه - بعضهم عرفه شخصياً ورافقه، وآخرون استسقوا معرفته من المتحدثين عنه والفريق الأخير هم أولئك الذين قاموا بقياس عبقريته وما قدمه للبشرية والإنسانية، فغيّر به مفاهيم الكرامة والعزة والسعي الدؤوب وتحدي المحن وتخطي الأزمات للمضي قدماً. أنا أنتمي إلى جيلٍ سمع وتعلم ولامس تحولات كبيرة لا يعيها العقل، فمنذ تولى الشيخ زايد زمام الأمور ومقاليد الحكم في أبوظبي، حَوّلَ جزيرة صغيرة إلى مدينة ثم جعلها عاصمة لوطنٍ ودولة تقف سامية أمام العالم، وتنبض أفئدة أبنائها بحبٍ صادق وصريح. وفي طريقي إلى مهرجان ليوا للرطب تدحرجت دموع وجَدَت من امتداد الرمال ما ألهمها، وبعث تصوراً وتساؤلاً عما سخره زايد لـ”المرواحين” والمتنقلين صيفاً وشتاء من كتف الربع الخالي.. إلى القلب الغالي: أبوظبي. وبهرني نور رأيته في الغربية فلقد جعلها الشيخ حمدان بن زايد “لؤلؤة الصحراء”، فربوع بدع زايد تطوي في ثناياها شيم البداوة واعتزاز أهلها بماضيهم الذي لا يحيدون عما يعززه ويربطه بالحاضر، حتى لايُهمش مستقبلاً فيجردهم من الذات وأعمدة ترتكز عليها هويتهم. وكم تفيض مشاعرهم التلقائية فيتذكرون ما سهل سُبُل الحياة فأصبحت الطرق مرصوفة، والماء قابلاً للشرب، ويستطيع الصغير والضعيف الاستحمام بشجاعة فلقد أصبح الماء دافئاً، والبعيد قريباً. إنه “ظافر الظفرة”، ولايرد اسمه إلا وكثرت الأدعية “زايد يعله الجنة، ويعل عياله طولة العمر”، ويبكي البعض من النعمة التي أغدقها عليهم ولم يحسبوا لها حساباً. وعندما وصلنا إلى موقع استضافتنا وجدنا شعوراً لا يضاهيه شعور، فلقد رتبت “ام ناصر” الأمور بمستوى رفيع يليق بمن سما، فالقهوة، والشاي الأحمر والأخضر، والرطب، والفوالة، والخروف النعيمي ممتغط على الصينية وفي استعداد تام للذوبان في أفواهنا. وبعد تبادل الملاطَفات يرن هاتفٌ قريب فترد علية اُم ناصر: نعم، الخطار موجودون وكل شيء مرتب، أنا سرت عنهم العزبة شوي يوم شفتهم أبطو وقد استوت الساعة 4! والتفتت إلينا قائلة: دخيلكم، أبغي أسوي لكم عشاء؟ شو تشتهون؟ فحدقت في السماء متأملة ولدي سؤالٍ جوهري قد يتطلب إجابته مؤتمر للعباقرة والحكماء.. من هم هؤلاء الكرماء ولماذا كل هذا اللامعقول من الحفاوة والتقدير؟ وفي المهرجان انزويت في زاوية استراتيجية مع حبات الرطب وفنجان قهوة شقراء وسمعت أحد الحكماء يحدث ابنته: لا يعرف العالم مدى عظمة الشيخ زايد ـ طيب الله ثراه ـ ففي الأيام السابقة لعهده لم يكن في بعض مناطق الصحراء الشاسعة ظلٌ تستظل به الطيور، فترين بعضها هالكاً والبعض الآخر قد تعرفت أجنحته على اليأس، فيسير على قدميه وينسى تلك الأجنحة. فردت عليه: لقد ظفر بقلوبنا وفعل بنا فراقه ما فعل، ولكن مسيرته لم تحد، وهاهم أبناؤه على ذلك النهج سائرون، وسرحت في تلك العبارات ثم في شهر القرآن والشهر الذي سمت فيه روح شيخنا إلى بارئها فقلت وهذه بركة أخرى له ولنا. وفي طريق عودتي من ليوا، قالت اُم خالد: شوفي البيوت كلها متشابهة.. فابتسمت وقال ضميري: هذا اكتشاف آخر لفكر شيخنا الظافر فتصميم البيوت الشعبية بتطابق، لايدل إلا على المساواة بين الأبناء وإن ظل حبه في قلوبنا في سباقٍ لا تساو. bilkhair@hotmail.com