في مراحل تربيتنا الأولى، حرصت والدتي - طيب الله ثراها - على تطبيق مبادئ دانتي ومفاهيم الكوميديا الإلهية التي تسيرها سبع خطايا مميتة، مثل الغضب والطمع والكسل والكبرياء والشهوة والحسد، والشراهة، فكانت توجيهاتها السامية تدعو إلى النفور منها، فتردد دوماً «الرغيب عطوه مصر ما سدته»، أي أن فقدان القناعة يُحَفِزُ الطمع ولو مُـنِح الطماع مصر لم يكتفِ بها، وعندما تساءلت عن ما الذي يقف وراء تكرار واستخدامها لهذا المثل الشعبي أجابت: قال الحق جل وعلا «اهبطوا مصراً فإنَّ لكم مَّا سألتم» ونحن نؤمن بالله وبأن مصر تحتوي ما لا يتصوره العقل. واتفق الوقت مع الرغبة، فحملت حقيبة بلا ملابس وركبت الجو إلى القاهرة، وعندما وطئت قدماي أرضها وجدتها على عكس ما تُهول أو تقول عنها الفضائيات، إذ تقف القاهرة رغماً عن ما يقال ويفعل بها المنتهزون بشموخ أهراماتها لتوقظك مع كل صباح بمنظر تلونه معطيات الوقت وتضاريس حياة أهلها. ولا يعتبر انسجام تلك الأصوات ضجيجاً، فهي تعبر عن عمل وجهد ورزق وتعاون وتكاتف، وهذا ما ألف بين الفقير والغني والمتغطرس، ليعيش الجميع بألفة وسلام. ويتساءل الغريب والوافد والأجنبي والمستعمر عن ما الذي قد يدهش أهل مصر؟ وما الذي يجعل الدعابة والفكاهة جزءاً رئيساً ومسيطراً على مواقف اليوم؟ وعندما أصر المصريون على أن الحياة الكريمة قريبة وقد كتب الله لهم منها نصيباً، سألت محامياً مرموقاً له مَـسلة طويلة في الشؤون القانونية المتعلقة بفك العُـقَد وتخليص العقارات من براثن ضعاف النفوس والسماسرة، سألته: لماذا يحارب المصريون النوم ويصارعوه حتى تكون لهم القبضة العليا والمحكمة عليه؟ فأجاب بهدوء: لا ينام المصريون لثلاثة أسباب، أولها: لوجود هم مستمر وقلق متواصل من مفاجآت القدر وما قد تحمله الأيام القادمة، والثاني: لردة فعل طردية، فالمرء يسعى ويشقى لتأمين لقمة العيش أو قوت اليوم وعندما يجدها يكون في مرحلة تجاوزت حدود الجوع، وقد يشمل هذا سيدات في حالات الوحم، أما السبب الثالث والأخير، فله علاقة شرطية ببيوت استعمرتها الحشرات التي تراه ولا يراها ودعيني «يا ستي» أُلَخِـصُ الموضوع ... لا ينام المصريون لأسباب تتعلق بالبطن، والدماغ، وفعل فاعل. هل مر من أمامك عنوان الكتاب: «مصر ليست أمي، دي مرات أبويا» للكاتب أسامة غريب، فتهادى رأسي مؤكداً النفي، فقال مُـثنياً: إقرأينه، حتى يسقط عني ظلم التعليق. وفي قهوة قريبة، جلست مع الصحف والمجلات، وصرت أتأمل البشر، فلكل واحد مسقط رأس، وطفولة، وأهل، ومشاكل، ومعضلات، وأهم من هذا كله لديه حبيب، فلقد هذب نهر النيل المصريين كثيراً وعلمهم الحب وأخلاقياته، وعندما استعدت فكري قلت: وماذا عن حياتي، وتذكرت نخبة من المدرسين المصريين الذين جاءوا لتدرسينا في الستينيات، وهذا فضلٌ لن ولا أنساه لمصر وأهلها، والأهم منه أن الله أكرمنا بالشيخ زايد - رحمه الله - الذي منحنا ما رسمنا به طفولة بريئة، وقد زرع لنا مدن تملؤها المحبة ويسكنها شعوب الوطن العربي والعالم الممتد، وهذا ما يجعلنا من الشاكرين والقانعين عندما نرى قوافل تقف بالبشر في محطات لا يحسدون عليها. bilkhair@hotmail.com