القاهرة - 'الاتحاد': كلما اقترب موعد الاحتفال بمرور مئة عام على انشاء ضاحية مصر الجديدة شرق القاهرة وهو الاحتفال المقرر له يوم السادس عشر من مايو القادم· شعر الجميع بأن هناك شيئا ما سيجعل الفرحة ناقصة·· فلا يمكن ان يكون الاحتفال بهيجا وكاملا مع استمرار أسر واعتقال رمز ضاحية مصر الجديدة·· وهو قصر البارون ادوارد امبان·· خمسون عاما مضت على وقوع هذا القصر المنيف في الأسر·· وسقوطه ضحية الصراع بين الدولة ممثلة في وزارتي الثقافة والشؤون الاجتماعية والمجلس الاعلى للآثار من جانب ورجال الأعمال السوريين والسعوديين وورثتهم من جانب آخر·· وعلى طريقة بقاء الوضع على ما هو عليه والمراهنة على عنصر الزمن لتقديم الحل·· غاب القرار الحاسم ولعب الاهمال لعبته الشهيرة وتحول القصر الفخم القابع على مساحة ثلاثين ألف متر مربع الى خراب ومرتع للبوم والخفافيش والعناكب·· وراح يئن تحت وطأة الاهمال وتنهمر دموع عشاق الجمال كلما مروا به·· وتاهت نداءات قصر البارون واستغاثاته في الزحام الى ان سمعتها السيدة سوزان مبارك قرينة رئيس الجمهورية ورئيسة جمعية خدمات مصر الجديدة التي ستتولى تنظيم الاحتفال بمرور مئة عام على انشاء الضاحية الراقية·
ويبدو أن الأمر كان·· بحاجة ماسة الى قرار عاجل من ذي سلطة فقد صدر ما يشبه الأمر من السيدة سوزان مبارك بضرورة حل مشكلة قصر البارون وإطلاق سراحه من الأسر واعادته الى ملكية الدولة وازالة آثار عدوان الاهمال على ملامحه الجميلة·
وتحرك الدكتور محمد ابراهيم سليمان وزير الاسكان بسرعة فائقة واستطاع ان يسجل نصرا ساحقا·· يحسب له ويسجل في تاريخه·· فقد أقنع ورثة رجال الأعمال الثلاثة ملاك القصر بالتخلي عن ملكيته مقابل حصولهم على مساحة أرض فضاء في ضاحية القاهرة الجديدة·· واسفر هذا الاتفاق التاريخي عن اطلاق سراح قصر البارون امبان من الأسر بعد خمسين عاما في سجن الاهمال واللامبالاة وبدأت وزارة الاسكان اجراءات ترميم القصر المنيف ليعود كما كان تحفة معمارية رائعة·· وأقر مجلس الوزراء في اجتماعه الأخير برئاسة الدكتور أحمد نظيف الاتفاق بين وزير الاسكان وورثة ملاك القصر·· ووافق على خطة الترميم وعلى اقتراح تحويل قصر البارون الى مزار سياحي لتكتمل الفرحة في احتفال مايو القادم بمرور مئة عام على انشاء مصر الجديدة·
ولمن لا يعرف فإن قصة قصر البارون تشبه الى حد كبير قصة مقبرة تاج محل في الهند·· فالعنوان الذي يجمع المكانين هو الحب والغرام والعشق·· فمقبرة تاج محل اقامها امبراطور الهند شاه جاهان لزوجته التي هام بها حبا ممتاز محل·· وقصر البارون أقامه البارون ادوارد امبان المهندس والمليونير البلجيكي بعد أن وقع في غرام مصر وقرر ان يعيش ويموت ويدفن فيها·
كما أن البارون امبان عاش سنوات طويلة في الهند وهام بها عشقا وقرر ان يكون قصره قطعة من الهند في قلب القاهرة ليجمع بين عشقه للهند وغرامه بمصر·· وهكذا أقيم القصر على الطراز المعماري الهندي بعد أن اشترى البارون امبان تصميمه الرائع من المهندس الفرنسي الكسندر مارسيل·
كان البارون امبان مولعا بالسفر والترحال وكان عقلية معمارية واقتصادية فذة وحط رحاله في القاهرة قادما من الهند بعد سنوات قليلة من افتتاح قناة السويس للملاحة عام ··1869 وبمجرد هبوطه من السفينة ووصوله الى صحراء شرق القاهرة وقع في غرام مصر وقرر أن يمضي ما تبقى من عمره فيها وأوصى بأن يدفن في ترابها·
واختار البارون صحراء مصر الجديدة أو شرق القاهرة مقرا لاقامته وقرر أن يبني قصره الضخم فيها واستمر البناء خمس سنوات حتى خرج قصر البارون امبان الى الدنيا عام 1905 ويضم قسمين·· الأول هو القصر الرئيسي ويتكون من طابقين وملحق صغير به قبة وعلى جدرانه تماثيل وفيلة وطيور وحيوانات أسطورية وراقصات من الهند وكلها مصنوعة من المرمر·
وقد تم انشاء قصر البارون بحيث لا تغيب عنه الشمس من خلال قاعدة خرسانية ترتكز على رولمان بلي وتدور فوق عجلات بحيث يرى الواقف في شرفة القصر كل ما يدور حوله وهو في مكانه·· وهذه الخاصية الفريدة لم تتوفر سوى لقصرين في العالم·· والقصران معا موجودان في مصر وهما قصر البارون امبان وقصر السكاكيني الذي مارس عليه الاهمال لعبته ايضا·
لكن فرحة البارون امبان بافتتاح قصره الذي يضم فقط سبع غرف في الطابقين لم تكتمل فقد دعا في حفل الافتتاح السلطان حسين كامل··· ووقف السلطان في الشرفة مشدوها وعز عليه أن يمتلك واحد من رعيته هذا القصر الاسطوري فأوحى الى البارون ان يهديه اليه فاعتذر البارون امبان بأدب لكن الازمة اشتعلت بينه وبين السلطان الذي خرج غاضبا واعتبر البارون خارجا على طاعته·· فأسرع البارون ببناء قصر آخر مجاور لقصره وقرر اهداءه للسلطان الذي رفض وأصر على القصر الأول·· وقرر البارون أن يغادر مصر حتى تهدأ الامور·· وجرت في النهر مياه كثيرة وعاد البارون الى القاهرة بعد قليل وكانت الحكومة قد قررت بيع 5952 فدانا صحراويا الى كل من باغوث نوبار باشا وادوارد امبان لانشاء مشروعات اسكان وتشغيل خط مترو لربطها بالقاهرة·· ولأن البارون امبان خبير في عمليات انشاء المترو حيث أنشأ مترو باريس ومنحته الحكومة الفرنسية لقب بارون·· فقد بدأ عمله في ضاحية مصر الجديدة بنشاط وراح يطلب المزيد من الأراضي ويدفع جنيها واحدا ثمنا للفدان الصحراوي·
وتحولت المنطقة الصحراوية الى ضاحية راقية بها مساكن فاخرة للطبقة الارستقراطية والاجانب المقيمين في مصر وسوق تجارية ومحال وحدائق ومضمار لسباق الخيل واصبح السكن فيها حتى الان حلما للراغبين في الوجاهة والمركز الاجتماعي المرموق·
ووسط الفرحة بالانجاز شعر البارون ادوارد امبان بآلام فظيعة فأسرع الى فرنسا للعلاج·· واكتشف هناك انه سقط فريسة للسرطان وعاد سريعا الى مصر ليموت في احضانها ويدفن في ترابها·· وورث ابنه امبان الصغير أملاكه وشركاته وقصره لكنه لم يرث عنه عبقرية الادارة وتنمية الثروة فأهمل كل شيء وانشغل بالترحال وترك امواله وشركاته في ايدي مديري اعماله من البلجيك وأوصى ببيع قصر البارون في مزاد علني·
وفي نهاية شهر ابريل انعقد المزاد العلني لبيع قصرالبارون ورسا مزاد بيع مبنى القصر على رجل الأعمال السوري محمد بهجت الكسم والسفير السعودي آنذاك محمد علي رضا وشقيقه علي علي رضا ودفع الثلاثة في القصر مئة الف جنيه·· وبمجرد انتهاء المزاد بدأت أزمة قصر البارون والصراع حوله وفشل رجال الأعمال الثلاثة وورثتهم في اقامة أي مشروعات بالقصر بعد ان اصطدموا بالقوانين الاشتراكية وقوانين حماية الآثار·· كما فشلت الدولة في التوصل الى أي حل لاسترداد القصر بعد ان طلب الورثة خمسين مليون دولار ثمنا له وهو ما رأته وزارة الثقافة طلبا تعجيزيا·
وظل الصراع قائما والاهمال يرعى في جنبات القصر الرائع حتى كان التدخل الحاسم للسيدة سوزان مبارك ثم الاتفاق الذي ابرمه وزير الاسكان مع الورثة ليعيد قصر البارون امبان الى احضان مصر بعد خمسين عاما في الأسر·