19 يوليو 2012
في كل ديوان شعر عربي تستوقفك قصيدة واحدة.. لا بد من ذلك، لكونها هي القصيدة التي تحتوي رؤية مغايرة، رؤية ربما تكون مختلفة عن كل قصائد الديوان لأسباب تجدها في تكوينها وموضوعتها، وأهدافها ونسجها.
هذه القصيدة، قد تشكل خطاباً غير معهود في قصائد الشاعر؛ ولهذا تفردت وبدت حاملة خصائصها الذاتية بنفسها فقط، خصائصها التي لا تشترك إلى حد بعيد مع قصائد ديوان الشاعر بأي مفصل أو سمة، إذ إن تفردها هو شعريتها.
وفي أحيان كثيرة ننظر إلى الاختلاف عبر الموضوع، إذ إن موضوع القصيدة هو الذي يفرض اختلافها وتميزها وغرابتها، حيث تصبح الغرابة تفرداً واختلافاً، ومما يلفت النظر في كل ديوان شعر هو هذا التميز الذي تحفل به قصيدة واحدة دون سواها حتى أن الشاعر يعرّف بها فيما بعد، إذ حال تذكر اسم الشاعر يقترن باسم القصيدة، وليس أدل على ذلك من امرئ القيس و”قفا نبك”، والمتنبي و”على قدر أهل العزم”، وعلي بن الجهم “عيون المها”، وأحمد شوقي بـ “نهج البردة”، وبدر شاكر السياب بـ “أنشودة المطر”، وأدونيس بـ “هذا هو اسمي”.
إننا لا يمكن أن ننكر أسلوب القصيدة، وصحة ألفاظها وغرابة صورها وجمال مألوفها في أن تصبح واسطة عقد ديوان الشاعر، بل مرتكزه وعموده، إذ لم أصادف ديواناً لم تتميز فيه قصيدة بعينها عن سواها من قصائد ذلك الديوان، وهذا بالطبع نادراً ما يحصل في قصيدة النثر، بل يكاد يكون معدوماً، وقليلاً ما يحصل في الدواوين المكتوبة بالتفعيلة، وكثيراً ما يحصل في الديوان المكتوب بطريقة الشعر العمودي، وبالطبع كثيراً ما يحصل في دواوين قصيدة الشعر النبطي.
ما استدعاني لكتابة هذه المقدمة قبل أن أدخل في موضوع هذه القراءة ما وجدته في ديوان الشاعرة الإماراتية “عوشة بنت خليفة السويدي.. الأعمال الشعرية الكاملة والسيرة الذاتية”، وهو من توثيق وجمع وتأليف الدكتورة رفيعة عبيد غباش والذي صدر بطبعتين وبكتاب إلكتروني قبل أسبوع اصدره بيت الشعر التابع لمركز زايد للدراسات والبحوث في أبوظبي.
والشاعرة عوشة السويدي “فتاة العرب”، وهو اللقب الذي حملته هذه الشاعرة، والذي أطلقه عليها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، حيث تراسل سموه معها عبر وسائل الإعلام المختلفة في مشاكاة شعرية جميلة وغنية بالصورة غير المألوفة.
غرابة القصيدة
قلت إن كل ديوان شعر يحمل غرابة قصيدة متفردة عما جاورها، أخياتها، وقد يقول قائل “هذا لا ينطبق على المتنبي، ربما أو على أحمد شوقي أو السياب”، وأجيب: نعم قد نجد هذا الأمر غير مطرد، إلا أن كل شاعر له قصيدة التميز والتفرد، ولعوشة السويدي قصيدتها “ربي يا واسع الغفران” المتفردة.
تميزت قصيدة فتاة العرب بعدة صفات أولاها أنها قصيدة بالفصحى، وبالشعر العمودي، وثانيتها أنها جاءت في خواتيم حياتها، وثالثتها أنها دينية، تضرعية، ورابعتها أنها لم تكتب بعدها شيئاً، ولو قاربنا ذلك ـ بوصفه موقفاً من الحياة والشعر ـ حيث لم تكتب بعدها شعراً نبطياً لوجدنا أن الشاعرة حقاً قد عادت إلى جذور الشعر العربي وهي قصيدة العمود.
أما من حيث الموقف، فإن خواتيم رحلتها بقصيدة كونية تضرعية لهو دليل على نضج الموقف من الحياة والكون.
لم تخرج عوشة السويدي عن التقليدية في مستهل قصيدتها عبر النداء الذي يحيلها إلى المناجاة، وهذا الاستهلال هو ذاته الذي صعد ليكون عنوان القصيدة “ربي يا واسع الغفران”، حيث تقول في البيت الأول:
ربي يـا واسـع الغفـران انزع الغلَ من قلبي
خرج الأمر “انزع الغل” إلى الدعاء، وهو شبيه بالنداء ذاته في “يا واسع”، إذ هنا مناداة وهناك مناداة غير أنهما جاءتا بأسلوبين مختلفين.
تتكرر الأمرية لدى عوشة السويدي في البيت الثاني:
لا تزغنــا عــن الإيمــان واهدنـا أحسـن الدربي
التوسل والتضرع
ولنلاحظ تكرار الأمر الذي خرج للتوسل والتضرع “انزع” و”لا تزغنا” و”اهدنا”، بطريقة فعل الأمر وبلا الناهية والفعل المضارع، وجميعها تنويع للنداء “يا واسع” الذي جاء في صدر البيت الأول من القصيدة.
وهنا نتساءل: ما فائدة هذا الاستخدام الأسلوبي في قصيدة عوشة السويدي؟
ونجيب: إن هذا الأسلوب يعد اتباعياً لأسلوب القصيدة العربية الإسلامية الكلاسيكية التي كانت مبنية على نمط الاستهلال بالدعاء، وكأن الشاعرة عوشة السويدي لم ترد أن تخرج عن المألوف والمتداول في بنية القصيدة الإسلامية التي ارتكزت على نظام استهلالي يبدأ بالدعاء وبأفعال أمر تخرج للتوسل والتضرع لكي يكون هذا المفتتح واسطة للانتقال إلى التوصيف الذي هو نظام مختلف يمكن الاسترسال به إلى ما يشاء الشاعر ليبث من خلاله عواطفه وأحاسيسه، وكأنه بذلك يقترب من بنية القصيدة الصوفية.
نظـرة يـا عظيـم الشـان منك يا كاشـف الكربي
وأعتقد أن هذا التجلي في استخدام “نظرة”، أي طلبها من ربها الالتفات إليها في نظرة، لا بمعناها الحسي، ولكن بمعناها المجازي يشبه إلى حد بعيد القصيدة الصوفية التي كان المتصوفة يطلبون من الله سبحانه أن يلتفت إليهم، وأن يشعرهم باهتمامه بهم كونهم أصحاب وجد إلى كينونته الكبرى.
حزن عميق
هي في حزن عميق ولا يزيح هذا الحزن إلا أن ينظر إليها من ربها وليس من أحد غيره.. إنها تبحث عن الروح المتعالية في سمائها، أما النظرة الأرضية فلا تساوي لديها شيئاً، إنها تطمح لنظرة عظيمة كما وصفتها وكأنها تعادل حياتها كلها بنظرة واحدة ليس أكثر، وهي لا تريد سوى نظرة واحدة منه، هو الذي يكشف هذا الحزن.
تتساءل الشاعرة عبر أسلوب بلاغي هو “سؤال المعارف”.
من بالعفو يا منان؟
ويتضح أن طلبها النظرة الواحدة، الكافية تلك، لم تأت لغاية صوفية، كما قرأناها في الشعر الصوفي، وإنما خرجت عوشة السويدي بها إلى أن تكون “نظرة للعفو”.
وتواصل عوشة السويدي الوصف بعد أن تحولت إليه من النداء والدعاء بفعل الأمر، حيث تستقر على التوصيف الآتي:
ينقضي العمر والأزمان كالسويعات في لعبي
وكما قلت يجيء طلب النظرة بعد انقضاء العمر وخواتيمه، وهي “فتاة العرب” تصف العمر والزمن الطويل بالسويعات التي تمر على من ألهته لعبة ما، إذ تتقلص تلك الأزمان وينضغط ذلك العمر ليتحول إلى سويعات لا يدرى بها ما دام صاحبها قد انغمر في اللعب.
ثلاثة أزمنة
ولنلاحظ هنا أن “فتاة العرب” استخدمت ثلاثة أزمنة، وهي “العمر” و”الزمن” و”الساعة” في أبعادها المختلفة وأطوالها المتعددة، فما بين العمر بطوله والأزمان “بكثرتها إذ هو لفظ لجموع الكثرة”، والسويعات “بقلتها وهو لفظ لجموع القلة” وبين اللعب، وشائج عدة إذ إن العمر يقاس بمتاعبه وطوله، بينما يقاس اللعب بسويعاته القصيرة القليلة، ذلك ما انتبهت إليه الشاعرة عوشة السويدي فوظفته بشكل دقيق وعملي.
وتعود الشاعرة إلى ربط “الوصف” في البيت السابق مع برهانها الضائع على سبب انقضاء العمر والأزمان باللهو، فتقرر ألا برهان لديها، إذ إنها فاقدة البراهين على سبب هذا اللهو الذي لم يمهلها زمناً آخر، حيث تقول: “ليس مولاي لي برهان” وترد فتجيب “غير صفحك عن ذنبي”، وهذا العجز من البيت هو شكل آخر للنداء يعود إلى بنية مستهل القصيدة وكأن الشاعرة في استهلالها كانت تطلب الصفح الذي أعلنت عنه صراحة في عجز هذا البيت “غير صفحك عن ذنبي”، الذي هو ضياع العمر والأزمان في اللهو والتي كان لا بد من تسخيرها لمناجاتك.
الشاعرة في البيت اللاحق تتوقع لقيا الله؛ ولذا فإنها لا بد أن تحمل معها جزءاً يسيراً من القرآن محفوظاً في قلبها، ولهذا فإن طلب الصفح عن الذنوب والدعاء وكل استهلال القصيدة يتمثل في هذا التوقع باللقاء وكأنها إشارة على خواتيم العمر.
أربع حركات
لنلاحظ أن هناك توسلين “طلبيين” أولهما “نظرة” وثانيهما “لقيا”، والنظرة المطلوبة قبل اللقيا، وأن تلك النظرة دلالة القبول الذي سيتجسد في اللقيا، حيث تطمئن الشاعرة وهي في الحياة أن لقياها بربها سيكون مشوقاً وجميلاً وممتعاً ومطمئناً، ما دامت النظرة قد تحققت بعد أن طلبتها، وإذا تحققت النظرة وسهل اللقاء، فإنها لا بد أن تنتقل إلى الجنة، وهذا ما حصل في القصيدة، إذ إن الشاعرة انتقلت إلى أربع حركات أولاها الدعاء وثانيتها العفو وثالثتها النظرة ورابعتها اللقيا، ولا بد أن تنتقل بعد كل ذلك إلى وصف المكان الذي ستذهب إليه “الجنة”.
لم تدخل الشاعرة في توصيف “الجنة” مباشرة، بل أتت إليها بعد أن تحركت في مراحل شعرية مهمة تقودها إلى مبتغاها.
لنلاحظ أولاً أن الشاعرة حتى البيت السابع كانت تقدم رحمة ربها على موازينها وتطلب منه العفو والغفران، لنلاحظ أنها سبعة أبيات وكأنها عندما تنتقل إلى البيت الثامن قد وصلت إلى “اللقيا”، وهو البيت الذي تقول فيه:
ويسير من القرآن حين ألقاك يا حسبي (البيت 8)
أي أنها قطعت سبعة أبيات/ سبع سماوات، حتى وصلت إلى اللقيا في البيت الثامن السابق. هذا البناء “سبعة أبيات/ سبع سماوات” توازي فيه الشاعرة بين الصعود في بنية القصيدة وتركيب طبقاتها/ أبياتها، والصعود في بنية السماوات إلى الأعالي، حتى تنتقل إلى البيت الثامن الذي هو يوازي مستواها ولقاءها مع الله سبحانه.
ثم كما قلت تنجح في لقائها في البيت الثامن وتنتقل إلى وصف الجنة التي دخلتها بعد غفران ورضا الله.
لنلاحظ كيف تبني عوشة السويدي “فتاة العرب” قصيدتها تلك بناء كونياً أو لنقل على طريقة تحولات رحلتها من النداء والطلب بالغفران، ثم تحقق النظرة بعد الأبيات السبعة الأولى أي تحقق النظرة في البيت الثامن باللقاء، ثم استغراق القصيدة عبر 15 بيتاً في “وصف الجنة”.
وصف الجنة
قلنا في 15 بيتاً من الشعر تبتدئ من البيت التاسع حتى البيت 24 في توصيف الجنة، مستغرقة في صفاتها كاملة:
جنــة نورهـــا الرحمــن سقفها العرش والحجبـي
في هذا البيت تضاء أمام عوشة السويدي الجنة، إذ حال دخولها لا بد من أن ترى ما فيها وعليه تصبح الإضاءة ضرورية بنور هو ليس كالنور، إنه نور الله، وكي تصف الشاعرة هذا الضوء لا بد لها من أن ترسم المكان بأفضل وصف، وأن تضع للمكان سقفاً حيث لا يصبح المكان مكاناً إلا وبه سقف، وعليه لا بد للجنة ما دامت هي فوق السماء السابعة أن تمتلك سقفاً مضاء بنور الله.
وبعد أن تحدد عوشة السويدي المكان المضاء لا بد لها أن تلجأ في الوصف إلى أرض الجنة، ولأنها ليست كأرض الأرض التي نعيشها، ترى الشاعرة وقد خضبتها بالطيب والشذا والروائح العذبة.
طيبــة أرضهــا قيعــان طاب منها شـذى التربـي
لنلاحظ التكرار هنا بين “طيب/ طاب” و”أرضها/ قيعان/ التربي” وكأن الشاعرة لا تريد أن تغادر لفظتين هما الطيب والأرض بما تحمل الأخيرة من قيعان وتراب.
وتظل الشاعرة في مجاراة القصيدة الكلاسيكية في صورها حين تعدد الطيب الذي كان قد عدده ووصفه الشعراء العرب القدامى.
روحها المسك والريحان ليــس يخطـر علـى قلبـي
ولكنه ليس مسكاً وريحان كما هو مألوف على أرضنا، بل هو نادر ندرة رؤية الجنة، والمسك هنا لا يعني المسك كما هو لدينا ولا الريحان كذلك، بل هو مسك آخر وريحان آخر، أما لماذا استخدمت لفظتي “المسك والريحان”، كما هما في الاستخدام الكلاسيكي للشعر فلأنه اسم عام لا يحمل خصائص المسمى، إذ المسمى متعدد الوجوه، فمنه ما هو أرضي ومنه ما هو سماوي، إذاً ترى الشاعرة في “المسك والريحان” اسمين فقط، لهما دلالات أبعد ورؤى أوسع وروائح أكثر طيبة في الجنة عنه في الأرض.
لا تتعدى الشاعرة ما ذكره الله “غرسها ذكره سبحانه”، حيث تتفجر العيون والجنان الدانية ورغد العيش والأفنان والخدم والغلمان والأواني والأسّرة والتيجان والقصور والنخل والرمان والحور والولدان والماء النادر البارد غير الآسن والألبان المصفاة والخمر غير المسكر إذ هو لذة للشاربين.
ظواهر أسلوبية
في هذا الوصف الذي، كما قلنا قد امتد لخمسة عشر بيتاً من الشعر، نرى عدة ظواهر أسلوبية وهي:
التكرار، والفصل بين الصفة والموصوف، والضمير المكرر العائد، وتقديم الجار والمجرور في استهلال البيت.
أما التكرار فانه يتجسد في:
طيبة وطاب في البيت الثاني،
جنان وجناها في البيت السادس،
لبن/ الألبان في البيت الثالث عشر،
الشارب/ الشربي في البيت الرابع عشر.
أما من حيث الفصل بين الصفة والموصوف فنجده في:
الأواني من الذهبي،
القصور من القصبي.
أما من حيث الضمير المكرر العائد على الجنة “المتأخر رتبة”، فنجده في:
روحها، غرسها، وخمرها.
وأخيراً تقديم الجار والمجرور في البيت الشعري الواحد وبخاصة في صدره وهو “بها”:
وبها الخدم والغلمان والأواني من الذهبي
وبهـا النخـل والرمـان والفواكــه والعنبــي
في التحول الأخير من البيت السادس عشر حتى خاتمة القصيدة في بيتها الأخير، وهو الرابع والخمسين، تعمد عوشة السويدي إلى الأحكام والواجبات الإسلامية والرجوع إلى الله بها، والتفرغ إليه من خلالها، وهي “الأركان الخمسة” التي تقود إلى الجنة التي لا خروج ولا خسران منها.
التصريع الشعري
تنتقل الشاعرة إلى اقترابها من الله فتقول:
يتجلــى لنــا الديّــان ونــراه علــى قربــي
ننظـر اللـه بالعينــان نظـرة ما بهـا حجبــي
نظرة تذهب الأحزان تأمن الخوف والرعبي
لنلاحظ “بالعينان” والأصح “بالعينين”، ولكن الشاعرة تجاوزاً، أرادت أن تخلق قافية داخلية تتجانس فيها “الديّان/ العينان/ الأحزان” مع كل بنية القصيدة لكونها قصيدة “مصرعة” من بيتها الأول حتى البيت الأخير تحكمها نهايات الشطر بالألف والنون ونهايات العجز “القافية” بالباء والياء.
ومن هذا المنطلق، تجاوزت الشاعرة على حرف الجر الذي يجر العينين بالياء والنون، حيث أرادت أن توافق التصريع فجعلتها بالألف والنون، إذ يبدو نشازاً أن تأتي القافية الداخلية هكذا “الديان/ العينين/ الأحزان”.
تتكرر في الأبيات السابقة كلمة “نظرة، تنظر نظرة”؛ لأنها هي المبتغى الذي تريد الشاعرة أن تصل إليه، إذ إن جهادها في الحياة هو النظرة إلى الله الحبيب.
وتختتم الشاعرة قصيدتها بالتمني والطلب “لا تكلني/ أعطنا/ أعدنا” وتدعو للجميع في خواتيم أبيات القصيدة التي من الغريب أنها تنتهي بغناء البلابل إلى الله الذي هو سماوي وارضي معاً.
أربعة أحلام
تقول عوشة بنت خليفة: في طفولتي حلمت أن القمر نزل على وجهي، وأنني ابتلعته حتى نزل من فمي وأنفي، وملأ داخلي كله، أخبرت والدي بهذا الحلم، فسأل الشيخ علي بن ابطحان (من منطقة ليوة)، فقال الشيخ علي: سيهب الله عوشة علماً يضيء كما أضاء القمر.
وقالت: درست عند محمد سميع؛ ذلك الرجل الفاضل وأبناؤه (صديق وعبدالجليل وغالب) هؤلاء من علموني، ولكن الشيخ الفاضل محمد سميع كان يقول لوالدي (رحمه الله): عوشة هي التي تعلمت القرآن، ولست أنا من علَّمها.
وتذكرت عوشة حلماً ثانياً؛ فتقول: كنا قد خرجنا حجاجاً من قطر، وكان ذلك في زمن الملك عبدالعزيز آل سعود، وبعد صلاة الفجر وعودتي من الكعبة نمت، فحلمت بالرسول (عليه الصلاة والسلام)، وأبي بكر وعمر، فبكيت خوفاً ورهبة من رؤية الرسول (صلى الله عليه وسلم)؛ فمد يده لي، وقال: “زيارة مقبولة”، ثم قام أبو بكر (رضي الله عنه)، ومد يده كذلك، ولم يسلم عليَّ عمر.
فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) لعمر: “صافحها! هؤلاء نحبهم ويحبوننا”.
وبكت عوشة من فرحتها بلقاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه.
وعن الشعر؛ تقول: ألهمني الله حب قراءة القرآن، وأنا الآن أحفظ القرآن، والله (سبحانه وتعالى) علم الإنسان ما لم يعلم.
وعن موقف أسرتها من قول الشعر؟ قالت: “أبي أحمد العود يفرح ويسعد بقولي الشعر، وأهلي يشجعونني على قول الشعر، ويفخرون به”.
ثم تعود بنت خليفة فتسترجع حلماً ثالثاً؛ فتقول: حلمت أنني أجلس في حجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأنا في الحلم أرى من يأتي للسلام عليه؛ كل يدخل فيقول “السلام عليكم يا رسول الله”، وأتذكر في ذلك الحلم أنني قبلته في كف يده.
وتستشهد بقول الرسول صلى الله وسلم “أنا لا أدخل الجنة إلا برحمة الله”، حتى الرسول يحتاج إلى رحمة الله ليدخل الجنة.
وتذكرت قصيدتها الأخيرة التي قررت فيها الاعتزال وهي “الغفران”. فقالت: نحن قلنا الشعر ونحن صغار ولم نتدارك الأمر.
قلت لها: يا أمي عوشة، الشعر الذي عندك هو هبة من الله، كما وهبك الآن هذه الطمأنينة في قراءة القرآن، وما قُلْتِهِ من شعر شكلّ أحاسيسنا ومشاعرنا وعبّر عن تلك المرحلة.
وهنا عادت وتذكرت حلماً رابعا، فقالت:
“حلمت بالسيدة خديجة (أم عبدالله) تجلس مع نساء من حولها، وكنت أنا مع امرأة أخرى متوجهتين لتلك الحلقة، فقالت المرأة” كأنهن يضربن الودع؟وعندما اقتربنا سمعنا خديجة تقول: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” فقلت للمرأة: هذه حلقة حديث لا ودع.
فجلست من وراء الحريم أستمع إليها، وعندما انتهت قمت (وقبّلتها على جبينها)، فرفعت رأسها، وقالت: “نلتقي بك إن شاء الله هناك”، وكأنها تواعدني على الجنة.
“هذا ما روته الدكتورة رفيعة غباش في كتابها عن سرد عوشة بنت خليفة لما حلمت به وأسباب كتابتها قصيدتها “ الغفران”.
النشأة والنسب
هي عوشة بنت خليفة بن أحمد بن عبدالله خليفة السويدي، من مواليد أبوظبي سنة 1920، جدها أحمد بن خلف العتيبة، وجدتها السيدة آمنة بنت سلطان بن مجرن (خالة الشيخة لطيفة بنت حمدان آل نهيان)، ويوثق قول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي هذه القرابة فيقول:
بيننا في الشعر قرب إلِنا نسب
وِكم يقرب بيننا قرب الجدود
وتؤكد عوشة بنت خليفة على تلك القرابة في إحدى قصائدها:
نفتخر بك يوم يربطنا النسب
بالقوافي والقرابة والجدود
وقد توفيت والدة عوشة السيدة حمده بنت أحمد مبكراً وطفلاها (عوشة ومحمد) بين الرابعة والخامسة من عمريهما تقريباً؛ وبعد وفاتها تزوج والد عوشة (خليفة السويدي) من السيدة موزة بنت محمد السويدي، وأنجبت منه: شرينه، واليازية، وأحمد بن خليفة السويدي (وزير خارجية دولة الإمارات الأسبق، وأحد مهندسي بناء الدولة الاتحادية)؛ ومن الجدير بالملاحظة أن الوثائق الرسمية لبنت خليفة كان مكتوباً في خانة (اسم الأم) اسم موزه بنت محمد، وإن كان هذا خطأ رسمياً إلا أن له دلالة على مكانة موزه في حياة عوشة، وقد اتخذتها أُماً في واقع حياتها وأوراقها الرسمية، ولم يفتْها ذلك في لحظة، حتى في قصيدة الختام (الغفران)، حين دعت لوالديها كما أمرنا الله بذلك، لكنها لم تغفل الدعاء لأم أحمد جزاء فضلها عليها، بل وخصتها بما هو أكثر، فقالت:
مـنّ بالعفــو يــا منــــان وأرحــم لأمـي وأبــي
لجــل الوالديـــن الفـــان في فنا كنفك الرحبي
أنْزَلْوا في الحمى ضيفان أَعْفِهِـمْ واغفر الذَّنبـي
واجزي أم أحمد الإحسان خصَهَـا منـك بالقربـي
ولقد تزوجت عوشة من إبن عمها راشد بن محمد السويدي الذي توفي في سن مبكرة، وأنجبت منه ابنة واحدة هي حمدة بنت راشد السويدي؛ زوجة السيد خلف الحبتور (والدته نوره بنت أحمد بن خلف العتيبة، خالة عوشة)، وأنجبت أحفاد عوشة؛ وهم: راشد، ومحمد، وأحمد، ونوره وآمنة وميرة أبناء وبنات السيد خلف الحبتور.
ولقد عاشت عوشة بداية في أبوظبي؛ المدينة التي ولدت فيها، وأقامت في العين معظم حياتها عدا الفترة التي قضتها في قطر (خمسة عشر عاماً تقريباً)، ثم عادت للعين مرة أخرى، وبعد ذلك انتقلت إلى دبي في أواخر الثمانينيات؛ ولم يكن المكان بالنسبة لعوشة مجرد رقعة وامتداد جغرافي، بل كانت له تداعياته ودلالاته في شعرها.
عن كتاب “عوشة بنت خليفة السويدي.. الأعمال الكاملة والسيرة الذاتية” للدكتورة رفيعة عبيد غباش.
* قصيدة “ربي يا واسع الغفران” للشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي “فتاة العرب” منشورة على الصفحة الأخيرة