لماذا تعاني الكتابة العربية عموماً من الضجر؟ حيث العثور على كتاب شيق ورشيق وحيوي وممتع ومفيد، يكاد يكون بمثابة الوقوع على كنز ثمين.
وهل على القارئ أن يبذل جهداً في القراءة، لأن الكاتب ليس مسؤولاً عن إمتاع القارئ؟
بوصفي كاتبة مقيمة في الغرب، فإنني أتحسّر على مصيرنا الكتابي، كلما صادفت رجلاً أو امرأة في المترو، أو الباص، غارقين في القراءة، غير مبالين بالزحام والضجيج والتبرّم وضيق المكان وثقل الآخر، بل يمسك أحدهم بالكتاب، يرفعه أمام عينيه بين الأيدي الكثيرة المتداخلة والمتشابكة الممتدة لتمسك بالعارضة الحديدية، فكأن القارئ منفصل عن المكان، مستمتع في عالمه.
وحين أتلصص على عناوين الكتب التي تفصل القارئ عن الضجيج والزحام، أجد أن أغلبها أعمالاً روائية.
إلا أننا في العالم العربي، لا نعثر على هذه العلاقة المتعوية بين القارئ والكتاب، إلى درجة أن يتشبث أحدنا بالكتاب ليستغرق فيه ناسياً ما حوله، إنما نقرأ غالباً بدافع الواجب والضرورة، لا بدافع المتعة.
كيف يمكننا إذن حل مشكلة عدم المتعة أو الضجر في القراءة العربية، لنرمّم الفجوة بين الكاتب والقارئ، وأيهما معني بهذه المبادرة، الكاتب أم القارئ؟
من أين يأتي الضجر في الكتابة العربية دون أن يكون القصد الحديث عن الضجر، إذ يمكننا كتابة نص مشوق عن الضجر، كرواية «السأم» لمورافيا، المتّسمة بالتشويق والإثارة، أو أن نكتب عن البطء (لكونديرا) دون أن نشعر بالبطء أو الملل.
الجاذبية ضد الملل
لمعارضة الملل، يذهب بنا الحديث عن الضد، أي الكتابة الجاذبة، أو النص الجذاب، ولتوضيح التعريف، يمكنني الاستشهاد ببعض النصوص المخالفة للضجر، ككتاب «سجينة طهران» لمارينا نعمت.
سيرة تمسك بالقارئ منذ بدايات السرد وتخلق الرغبة في القراءة، بحيث لا تكون القراءة مجرد تتبع قسري للكاتب، أو أن تتطلب مجهوداً إضافياً، بل تتحول عملية القراءة إلى شراكة إبداعية، بين القارئ والكاتب.
وذلك لأن الكاتبة جهدت في تدوين النص المستمد من سيرتها الشخصية، أي الصدق في الروي، ومتعة السرد، الذي لا يعني أبدا حالة السعادة أثناء السرد، بل يعني على العكس أحياناً، التعبير عن الألم والخوف، ولكن يتحول كل ذلك العذاب والمعاناة، إلى متعة سردية فور انتهاء عملية التدوين.
هناك أمثلة عديدة في الرواية العربية المعاصرة، حيث نجح بعض الكتاب في إنتاج نص جاذب متحرر من الضجر، نص مشغول عليه بمتعة، تتعلق بشغف الكتابة وحبها، من تلك الأمثلة، كتابات الروائي اليمني علي المقري، خاصة في روايته «اليهودي الحالي» حيث تلك الكتابة التي يصعب العثور فيها على مقاطع زائدة تحتاج إلى القصقصة أو المرور عليها.
كتابة خالصة، تترك المفيد والممتع إبداعياً وتنسف الحواشي والسرد الممل.
مضافة الكاتب
الملل إذن، هو أحد أهم عوائق القراءة العربية، حيث يصف لنا القارئ في صفحات مطولة، ما لا يهمنا ولا يؤثر في مسار السرد، تماماً كالمضيف الذي يسرد لضيفه حكايات متشعبة بهدف الثرثرة والرغبة في الكلام، دون التوقف أمام أهمية أو عدم أهمية ذلك الكلام.
حين يذهب القارئ إلى الكتاب، تتحول العلاقة بين الكاتب والقارئ إلى ما يشبه علاقة الاستضافة، يكون الكاتب فيها هو المضيف، والقارئ هو الضيف، فكيف يُحسن المضيف استقبال ضيفه؟
من أولويات حُسن الضيافة: المتعة.
وهذا يقودنا بتلقائية إلى ما قيل من قبل حول متعة الكتابة والقراءة، أو «لذة النص» حسب رولان بارت الذي يقول إن لذة القراءة معروفة ومشروحة منذ زمن بعيد، وليس هناك سبب يدعو لإنكارها والحجر عليها حتى لو كانت تفصح عن نفسها في إطار ما يمكن أن نسميه بالفكر النخبوي.
هل يمكننا إذن، وعكس اللذة، أن تُستخدم مفردة الملل في سياق النقد الأدبي، لنقول عن نص إبداعي (رواية ـ شعر ـ قصة.
.
) بأنه ممل، أو حتى عن السينما والفن التشكيلي؟ بمعنى هل من شروط نجاح العمل الفني، ألا يكون مملاً، أو أن يكون جذاباً ومتحرراً من الضجر؟
هذا السؤال مشروع خاصة في ظل المزاحمة غير القصدية حتى، بين الأدبين، الغربي والعربي، ومن حق المهتم بالأدب العربي ومستقبل الكتابة العربية والحريص على تألقها، طرح هذه الأسئلة ومحاولة استنتاج وصفات «تحرير» الكتابة العربية من «الضجر» وخلق العلاقة مع الآخر/ القارئ، بحيث تنشأ علاقة عقدية بين الكاتب والقارئ، قائمة على المتعة المشتركة.
لا يمكن وضع هذا الكلام في خانة الرقابة على الكاتب، ولا يمكن مطالبة الكاتب بشروط مسبقة للكتابة، ولا حتى عليه أن يفكّر بالقارئ أثناء الكتابة، حتى لا تتحول رغبات القارئ إلى سلطة تتدخل في العملية الإبداعية، ولكن في المحصلة، فإن النص الناجح، هو ذلك الذي يحقق تلك المتعة، وحسن الضيافة كما وصفنا العلاقة للتو، دون أن يتعمّد الكاتب فعل هذا، بحيث تكون متعة القراءة مرتبطة بمتعة الكتابة.
بوصفي كاتبة، فإن القراءة هي من أساسيات مهنتي، ولهذا أيضاً، فإنني مضطرة غالباً إلى قراءة إصدارات زميلاتي وزملائي في الكتابة، من مبدعين عرب أعرفهم، ويساهمون في تشكيل المشهد الإبداعي، وفعلاً حين أجدني مضطرة إلى فعل القراءة بفعل الضرورة المهنية من ناحية والواجب بين الأصدقاء من ناحية أخرى، فإنني من الناحية المهنية أشعر بإشكالية الكتابة العربية، ومن الناحية الشخصية أشعر بحرج انتقاد عمل لصديق، ينتظر منك غالباً أن تتحدث عن الزوايا الإيجابية في كتابته.
لا أدعي في هذا السياق، بأنني أنتج نصوصاً مغايرة، ربما تكون كتابتي أيضاً وبالنسبة للآخر مملة وجالبة للضجر وهادرة للوقت.
لو أنني ناقدة فقط، وتربطني بالنص الآخر علاقة موضوعية قائمة على تفكيك النص دون الاهتمام إلى عامل الزمالة أو الشراكة الإبداعية لخصصت وقتا طويلاً للتحدث ودرس الإعمال الإبداعية المملة، وبالعكس، لوهبت الكثير من الوقت لأكتشف النصوص المغايرة، تلك التي يمكن وصفها بالنصوص أو الكتابة الجذابة.
مستويات المتعة
تتحقق هذه الشراكة الإبداعية، في عدة صياغات:
المتعة المشروطة: حين يتم الإسقاط بين النص الشخصي للكاتب والتجربة المماثلة للقارئ، إذ يتم ما يشبه التماهي بين القارئ والكتاب، ويتتبع القارئ مسيرة الكتاب، للتعرف على مستقبل تجربته.
المتعة الجمالية أو البسيطة: ويمكن استبدالها بمصطلح التشويق، حين يتبع القارئ الكتاب مأخوذاً بمتعة الحكاية وجماليات القص أو الجماليات الإبداعية.
المتعة الخالصة، وهي أعلى درجات متعة النص، حين يصل الكتاب إلى قارئ غير محدد المواصفات سلفاً، قارئ يبحث عن متعة القراءة، من وجهة نظر عمومية، متطلّبة على الغالب، وهنا ندخل في محور إشكالي يتعلق بحالة القراءة في العالم العربي وغياب هذا الطقس من الثقافة العربية عموماً وارتكازها أو تمحورها في طبقة خاصة هي طبقة الكتاب أو الطلاب الباحثين.
أسباب الضجر
لماذا لدينا هذا الحجم من الكتابة المضجرة على حساب الكتابة المبدعة العميقة أو الجاذبة؟ الحديث هنا إذن عن الإبداع.
إبداع الكتابة، وإبداع المتعة في الكتابة، وإبداع المتعة بعد الكتابة، ولهذا علينا أن نقسو على أنفسنا قليلاً ونحن نحلل ونفكك كتابتنا المملة، لفهم أسباب هذا الملل.
من أحد أسباب الملل، السطحية الكتابية، وقانون السوق.
حيث تساهم انتشار أعمال قليلة القيمة، في فرض ذائقة أدبية سطحية في الساحة، وهي ظواهر فردية، متواجدة في الثقافتين العربية والغربية معاً، لها أسبابها المنفصلة عن هذا السياق، فتتحول هذه الظواهر، أو البيست سيلر، إلى قواعد او وصفات يفكر البعض باتّباعها، للوصول إلى حجم ( النجاح) الذي حققه ذلك الكاتب أو ذلك الكتاب.
أذكر مثلاً في بداية كتابتي، كيف قال لي أحد المعارف، لماذا لا تكتبين مثل أحلام مستغانمي؟ أجبته، ببساطة، لأنني لست أحلام مستغانمي!
فكرة التقليد أو اتباع الوصفة، تغيّب الإبداع، ونجاح كتاب ما، بفعل الطفرة، لا يعني بأنه الطريق الصحيح.
هذا الخطأ، يقود إلى إنتاج كتابات مملة تنهل من نفس المنهل الاستثنائي، وتقود إلى الضجر وغياب المتعة، تلك الطارئة والاستثنائية التي حققها (البيست سيلر) المتعارض غالباً مع القيمة.
من العوامل الأخرى لتكريس الضجر، هو النظرة الكلاسيكية للكتابة، وهذا موضوع متعلق وشائك، سيتم التوقف عنده في محطات قادمة، لإنصاف الكتابة، وعزلها عن الثرثرة، والكليشيهات والسرد الطويل الممل المحتشد بالتزيين اللغوي والبذخ التعبيري، المنفصلين تماماً عن النص وروحه أو كيميائه، وهذه الكلاسيكية، ساهم في تكريسها الكثير من العوامل، أهمها الناقد الكلاسيكي غير المبدع، الناقد الحريص على قوانين اللغة المنتمية إلى العصور الآفلة، متكئاً على اللغة البرانية للنص، مهملاً القيمة الإبداعية المضيفة للكتابة، فكأن الكتابة هي مجاز لغوي وتراكيب معقدة وتحديات لإبراز المهارة اللغوية للكاتب، تلك المهارة التي يمكن تنزيل الكثير منها عبر القواميس المخزّنة والمتروكة على الرفوف حيث تعلوها الغبار.
لهذا فالعملية الإبداعية هي تماماً العكس، هي كنس ذلك الغبار، وتحرير الكتابة من اللغة التي لا تشبهها، اللغة الزائدة، الوصفية، المملة، غير اللازمة.
المشهد الأخير
لا يمكننا في نهاية المطاف وضع مجمل الكتابة العربية في كفة الملل، لأن السنوات العشرين الأخيرة خاصة، وتحديداً على مستوى الرواية، وربما من باب الذائقة الشخصية، قدمت نماذج من الكتابة الرشيقة الحيوية الممتعة، وتخلص أصحابها من الضجر، والأمثلة كثيرة، ربما يكون إيرادها تعسفاً لتغييب أسماء لا ترد للفور في الذاكرة.
كما أن استحداث جوائز الرواية في العالم العربي فتح باب الاجتهاد والتجريب وساهم في تقديم أعمال ذكية وجرئية دخلت في باب المتعة وحققت لذة القراءة، ولذة الكتابة.
ويمكننا ختم الكلام بالقول إن الإبداع الحقيقي يتعارض مع الضجر، الإبداع هو قدرتنا ورغبتنا على قراءة العمل ذاته، مرة وأكثر، والقدرة على تزويد القارئ بمتعة القراءة.